كتب المحرر السياسي عندما تنتفض الجامعات في اميركا.
كتب المحرر السياسي
عندما تنتفض الجامعات في اميركا.
في مشهد لم تألفه اميركا منذ خمسين عاماً ، تعيش العديد من الجامعات الاميركية اجواء حراك طلابي ، انطلقت شرارته من جامعة كولومبيا في نيوريوك وانتشر كالنار في الهشيم ليشمل عشرات الجامعات على مساحة الجفرافيا الاميركية من شرقها الى غربها. هذه التحركات الطلابية اعادت الى الاذهان انتفاضة الجامعات في نهاية الستينيات واوائل السبعينيات ضد الحرب في فيتنام يوم كانت اميركا طرفاً مباشراً فيها ، في مواجهة مع حركة التحرير الفيتنامية التي ما ان خرجت من مواجه مع فرنسا حتى دخلت في مواجهة مع اميركا واستمرت حتى تحقيق الانتصار وخروج القوات الاميركية مدحورة بعد صراع دامٍ استمر لعشر سنوات وبلغ ذروته في سنوات السبعينيات الاولى.
ان الحراك الذي تشهده الجامعات في اميركا ، انطلق تحت وقع المجازر الصادمة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة مع مايستتبعه من اعتقالات واجراءات قمعية في الضفة الغربية والقدس بعد سبعة اشهر من حرب الابادة الجماعية التي لم توفر بشراً وحجراً وشجراً واوقعت حتى تاريخه ٣٥ الفاً من القتلى وما يقارب المئة الف من الجرحى عدا المفقودين والاسرى والذين مايزال مصيرهم مجهولاً.
ان الحراك في الجامعات الاميركية ، يكتسب اهمية خاصة ، لانه يدور على الساحة الاميركية ، وهي الساحة التي تمتلك ادارتها السياسية التأثير الاقوى على الكيان الصهيوني ، كونها توفر له مظلة الحماية السياسية على الصعيد الدولي ، وتعطل كل قرار يتناوله” بالادانة لما يرتكبه من جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية بحق شعب فلسطين ، هذا الى كونها الدولة التي ُتعتبر مصدرالتسليح الاساسي ودولة الارضاع المالي والاقتصادي له واخر حزمة كانت مدّه بمبلغ ٢٦ مليار دولار اميركي لتمكينه من مواجهة تداعيات الحرب على اقتصاده . ولهذا فإن اميركا وان لم تكن في الواجهة المباشرة في ميدان العمليات العسكرية على الارض، الا انها على تماس وتواصل مباشرين مع الادارة العسكرية والسياسية الصهيونية في تحديد السقوف على مستوى الساحة المركزية للحرب الدائرة على ارض فلسطين او على مستوى الاطراف من جبهة لبنان الى البحر الاحمر . وعليه فإن اميركا والحال هذه هي شريك مباشر في كل ما قامت وماتقوم به “اسرائيل”وخاصة على مستوى ادارة الحرب على مستوى الاقليم والمخرجات السياسية .
ان الحراك في الجامعات الاميركية يكتسب اهمية خاصة لعدة اسباب. اولها ، انه يجري في الموقع الدولي الاكثر تأثيراً في ادارة السياسة الدولية . وثانياً، ان قواه هي الاكثر ديناميكية وحيوية في التكوين المجتمعي .؛ وثالثاً ، ان ميدانه في الجامعات التي تتميز بسمتين اساسيتين : الاولى ، انها تخرّج النخب الفكرية والسياسية التي تتولى مواقع مفصلية في بنية الادارة السياسية والاقتصادية والعسكرية ، والثانية ، انها ميدان البحث العلمي والتخصصات التي ترسم الاستراتيجيات وتزود المراكز البحثية بالخبراء في كل ميادين الاختصاصات وهي التي تؤدي وظيفتها “كمطابخ “، لرسم استراتيجية الدولة تعلق الامر بالداخل او العلاقة مع الخارج.
هذا المعطى الذي ينطوي عليه بُعْد التحركات الطالبية في الجامعات هو ما حدا باللوبي المؤيد “لاسرائيل” ، الى اطلاق حراك مضاد من المؤيدين لها ، ولما لم يستطع هذا التحرك المضاد الذي ترافق مع حملة اعتقالات ضد الاطلاب واجراء ادارية تعسفية بحق مديري بعض الجامعات الحد من التحركات الطالبية ،كان استحضار شعار “معاداة السامية “، كنوع من الترهيب المادي والمعنوي ضد حركة الاحتجاج الطلابية على السياسية الاميركية تجاه القضية الفلسطينية. وهو الشعار الذي يتم استحضاره في كل مرة تجد “اسرائيل” نفسها كما داعميها وخاصة اميركا انهم في مأزق بعدما استنفذوا كل اساليب الضغط العسكري والسياسي والاعلامي.
فبعد سبعة اشهر من العدوان العسكري بكل الدعم وخاصة الاميركي ، لم تستطع “اسرائيل” ان تحقق النتائج السياسية التي ترمي الوصول اليها ، فالمواجهة على الارض مازالت على اشدها ورغم التدمير الهائل الذي اصاب غزة مازال عامل الاستعصاء الفلسطيني حاضراً بقوة على مستوى الادارة العسكرية والسياسية والاسرى.
كما انه بعد سبعة اشهر على العدوان على غزة الذي اعقب عملية “طوفان الاقصى ” ، فأن التغيير الحاصل على مستوى الرأي العام العالمي ، ضد جرائم “اسرائيل” ،لم يسجل انخفاضاً كما ظن كثيرون نظراً لطول امد المواجهة ، بل على العكس من ذلك حافظ على وتيرته ، وهو عاد ليسجل ارتفاعا ملحوظاً ومن مؤشرات هذا الارتفاع انه لم يعد محصوراً بالتظاهرات الشعبية التي تعم اوروبا والعديد من عواصم ومدن العالم ، بل دخل الى حرم الجامعات ليستقر فيها غير آبه بما يتعرض له من ترهيب مادي ومعنوي. وهذه التحركات الطالبية التي انطلقت تحت عنوان ادانة “اسرائيل ” بالتلازم مع الدعوة بالحرية لفلسطين ،وانتقلت من اميركا الى كبرى الجامعات في فرنسا وبريطانيا ، تبين ان التحول في الرأي العام العاملي لمصلحة القضية الفلسطينية بات تحولاً نوعياً ، وتأثيره سيكون قوياً على حكومات الدول التي لن تستطيع ان تعاند التوجهات الاساسية في الرأي العام وقدرته على المحاسبة والمساءلة.
من هنا ، فإن ماتشهده الجامعات الاميركية من انتفاضة طلابية دعماً لحق شعب فلسطين بالحرية وتقرير المصير ، انما تعبر عن حقيقة الاختلاجات العميقة في المجتمع الاميركي ، والذي مهما حاولت مراكز الضغط واللوبيات التي تؤثر على مفاصل الادارة السياسية ، ان تطمس هذه الحقيقة ، الا ان قوة الرأي العام وقدرته على المحاسبة ستفرض نفسها ، وتجربة اختبارها في التعامل مع القضية الفيتنامية هي خير شاهد على ذلك. واما عن شعار “معادة الساميةء” الذي يستحضر حالياً كعنصر ترهيب مادي ومعنوي ضد المعارضين لسياسات الكيان الصهيوني وداعميه ، فإنه بات مستهلكاً ، لان كياناً يمارس سياسة الفصل العنصري ويرتكب حرب ابادة جماعية ، لم يعد باستطاعته الحفاظ على الصورة النمطية التي سعى دائماً للتلطى وراءها بأنه في موقع الضحية ، بل باتت صورته الطاغية هي صورة الجلاد والسفاح ومجرم الحرب.
لقد افرزت مقاومة العدوان الصهيوني والصمود الشعبي في غزة جملة نتائج لجهة التحول في الرأي العام العالمي ، بدءاًمن اعادة القضية الفلسطينية الى مدارها الانساني وتحويل قضية حق تقرير المصير لشعب فلسطين الى قضية رأي عام ، وصولاً الى محاصرة مزاعم “اسرائيل” بان معاداتها ككيان عنصري هو معاداة للسامية . ويبقى التطور المهم الذي لابد من التوقف عنده هو عملية الاختراق للجدار الاميركي انطلاقاً من موقع الجامعات التي تنتفض ضد العدوان الصهيوني وتنتصر لقضية شعب فلسطين في الحرية وتقرير المصير. وهو ماسيبنى عليه في رسم مسار التحولات السياسية في استحضار الضغط الشعبي والطلابي في مواجهة تأثير اللوبيات الضاغطة بكل مايتعلق بمجرى الصراع العربي – الصهيوني