انتفاضة العراق.. الشعب بيتكلم عربي كلمة المحرر السياسي لموقع طليعة لبنان / معاد لأهميته
ليست المرة الأولى التي تنزل فيها الجماهير الشعبية في العراق إلى الشوارع والميادين بعدما وصلت المنظومة الخدماتية إلى الحضيض . فقبل أشهر كانت مدن الجنوب والفرات الأوسط وذي قار والناصرية مسرحاً لتظاهرات شعبية استمرت لأيام، لكن جرى الانقضاض عليها بتوجيه مباشر من الحلقة الأمنية الإيرانية التي تشرف على إدارة التشكيلات الميليشاوية التي انضوت تحت ما يسمى بالحشد الشعبي الطائفي، وتكاد الشعارات التي رفعها المتظاهرون في الأوقات السابقة هي ذاتها التي ترفعها الجماهير في الانتفاضة الحالية والتي تتميز عن سابقاتها بأنها أكثر تحشداً وأكثر شمولاً وأكثر تشديداً على سلمية الحراك الذي انطلق تحت ضغط الواقع المعيشي الصعب، واستفحال الفساد السياسي والإداري والمالي، و ارتفاع منسوب الغضب الشعبي المكبوت من التغول الإيراني في كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية.
لكن ما يجدر التوقف عنده في مقاربة الأبعاد الفعلية لهذه الانتفاضة هو أن الجماهير الشعبية التي غصت بها ميادين بغداد وخاصة ساحة التحرير، والبصرة والحلة والناصرية والعمارة والنجف وكربلاء، وجهت رسائل بثلاثة اتجاهات.
الاتجاه الأول هو ضد العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال الأميركي واحتواها الاحتلال الإيراني، والتي أثبت في سياق إدارتها للوضع أنها مجرد تشكيل فوقي ينفذ إملاءات تملى عليه ،في البدء كانت أميركية، ثم تحولت إلى إيرانية والتحول الأخير هو الأخطر لأن النظام الإيراني عمد إلى إنشاء تشكيلات ميليشياوية أنيطت بها أدوار أمنية لتنفيذ التوجيهات الإيرانية، ومن ثم شرع وضعها كتشكيلات رسمية من ضمن القوى العسكرية والأمنية النظامية في استحضار لنموذج ما يسمى بالحرس الثوري الإيراني (أي التشكيل السلطوي الموازي) الذي يغذى ويمول من خزينة الدول لكنه يرتبط بمركز توجيه وتحكم من الجهة التي أشرفت على إنشائه وتدعيمه وتوحيد أطرافه.
وإن تطلق الجماهير المواقف المنددة بالسلطة بمختلف أطرافها وتدعو إلى محاسبتها على أدائها في كل المجالات المرتبطة بالإدارة العامة، فهي إنما كانت تعبر عن رأيها بهذه المنظومة التي سميت حاكمة وهي ليست سوى دمية تحركها المرجعية الإيرانية دينية كانت أم سياسية أم أمنية، وهي بذلك تكون قد نظمت عملية استفتاء بعيداً عن كل أشكال التعليب والتزوير بنتائجه.
إن شعباً يحرم من أبسط الحقوق الخدمية في الكهرباء والماء والنقل والطبابة وبتدني مستوى التعليم بحيث لم تعد الشهادة العراقية يعترف بها وهي التي كانت مفخرة لحامليها، وأن شعباً ترتفع بنسبة البطالة عنده، وتنهب ثرواته لتوظف في خدمة الاقتصاد الإيراني، ما كان بوسعه أن يسكت طويلاً على هذا الضيم الاجتماعي وهو الذي عاش الاكتفاء الذاتي وتوفير كل الخدمات الضرورية في لحظات الحصار، وبالتالي فإن انتفاضته هي أمر طبيعي في وقت يرى فيه الدمى السياسية تغرف وتسرق ثروة البلاد وتحولها إلى أرصدتها الخاصة في البنوك الأجنبية.
إن الوضع الاجتماعي – الاقتصادي وصل حد الاختمار، وهذه هي من مقدمات ثورات الشعوب التي تثور لحماية حقها الطبيعي بالحياة بعدما أوصلتها الطغمة السلطوية إلى حافة الموات السياسي والاجتماعي.
الاتجاه الثاني هو ضد إيران وإن تصدح حناجر المتظاهرين الذين غصت بهم الميادين، بشعار (إيران برا – برا) (بغداد حرة حرة)، فلأنها باتت تدرك جيداً ان هذا الوضع المزري الذي وصل إليه العراق بكل نواحي حياته، هو بسبب الدور الإيراني الذي بات يجسد احتلالاً مباشراً. وأن استراتيجية النظام الحاكم في طهران، هي رؤية عراق مدمرٍ بنيوياً، لا دولة فيه، ولا سلطة تتمتع بالحد الأدنى من الاستقلالية، بل عراقاً تابعاً يدور في الفلك الإيراني، بحيث يكون مركز الجذب القائم في طهران هو الذي يتحكم بحركة الجرم العراقي.
إن الذي جعل الصوت الشعبي يرتفع هذه المرة أكثر من المرات السابقة ضد إيران، هو ليس تثقيل الكابوس الإيراني على الشعب العراقي بجوانبه السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية وحسب، بل لسبب آخر على قدر كبير من الأهمية، وهو أن المخطط الايراني لم يعد يكتفي بامتصاص ثروات العراق وأضعاف دولته، بل يهدف أيضاً إلى إسقاط هويته. وهذه مسألة تتجاوز عند المواطن العراقي حدود التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتغول الإيراني، والتي يمكن أن يشد الأحزمة وهو يواجه ظروفها الصعبة، لكن ما لا يمكن للمواطن العراقي أن يقبل به وتحت أي ظرف هوأن تسلب منه كرامته وعزته الوطنية وعروبته.
وإذا كانت الانتفاضة بحجم الحضور الجماهيري الذي تميزت به هذه المرة، شكل استفتاء شعبياً على أداء المنظومة السلطوية، فإن هذه الانتفاضة وبالشعارات التي رفعتها والهتافات التي أطلقتها ضد إيران وإحراق العلم الإيراني، إنما كانت استفتاء شعبياً على الدور الإيراني المتغول في مفاصل الإدارة والحياة العراقية. وهذا البعد الذي تأخذه الانتفاضة الحالية يفوق أهمية ،دلالات البعد السياسي – الاجتماعي الذي حركت أسبابه الحالة الاقتصادية والاجتماعية.
لقد شعرت الجماهير ، إن إيران تريد طمس هوية العراق الوطنية، وتشويه المنظومة القيمية التي تتميز بها الشخصية الوطنية العراقية، وتعميم ثقافة التفريس على حساب الثقافة القومية العربية بكل أعرافها وتقاليدها وأرثها المتراكم عبر التاريخ.
كما باتت تدرك جماهير العراق، ان إيران وبالشكل الذي تتغول فيه في الشأن العراقي لا تريد مساعدة العراق كما تزعم ، وإنما تدميره والثأر منه عن هزيمتها في القادسية الثانية،كما الثأر من الأمة العربية عبر ثأرها من العراق من هزيمة الفرس في ذي قار والقادسية الأولى. لقد اكتشف شعب العراق أن دخول إيران على رافعة الاحتلال الأميركي هو لنفث كل سمومها في العراق وتسميم ليس منظومته الغذائية وثروته المائية وحسب بل أيضاً تسميم منظومته الاجتماعية والثقافية.
إن إيران تسعى لتدمير العراق وإذلال شعبه للثأر من هزائم مني بها الفرس على أيدي العرب حديثاً وقديماً وأن ينتفض شعب العراق ضد إيران، فإنما ينتصر لقضيته الوطنية ولكرامته التي يعتز بها ولعروبته التي يعرف بها كهوية قومية. وإن تملأ الانتفاضة الميادين وأن تنزوي السلطة في دوائرها الرسمية، وأن تهاجم الجماهير مقرات التشكيلات التي توجهها إيران، وتعتبرها رموزاً إيرانية، فهي إنما تؤكد، بأن علاقة النظام الإيراني مع بعض التشكيلات إنما هي علاقات مع حلقات أمنية، وهي أبعد من أن تصل إلى عمق القناعة الشعبية.
وهذا ثابت لأن نبض الشارع العراقي قال لا لمنظومة الفساد، لا لهذه العملية السياسية التي أفرزها لاحتلال، وقال لا لإيران ولكل القوى المرتبطة به.
أما الاتجاه الثالث ،فهو موجه إلى كل الذين خططوا ونفذوا العدوان الأول والثاني وما بينهما من حصار وهي أن شعب العراق لا يفهم الكيمياء السياسية والاجتماعية والوطنية الخاصة به إلا ذوي الانتماء الوطني الأصيل الذين يضربون جذورهم في التاريخ العربي لهذا الشعب،ومن يريد أن ينفتح على العراق إنما كان عليه ان ينفتح على قواه السياسية والشعبية الأصيلة التي تعبر عن الحقيقة التاريخية لهذا الشعب،وليس على الأدوات المرتبطة بمن دمر العراق ويسعى لإسقاط هويته القومية.
إن شعب العراق يعي هذه الحقيقة وجماهير الأمة تعي هذه الحقيقة ،لكن مطلوب من حكام العرب أن يعوا هذه الحقيقة أيضاً ولو متأخرين.
إن نبض الشارع عبر بوضوح عما يريد الوصول إليه، وقال بصوت عالٍ ان العراق عربي كان وسيبقى، فهل يفهم حكام طهران إن هذه الرسالة ومعهم من ارتضى أن يكون ذيلاً ذليلاً لهم ويعود إلى وطنيته ؟
العراق عربي وشعب العراق بيتكلم عربي هكذا تقول الانتفاضة ..
|