كلمة المحرر

كلمة الطليعة : من الزلزال الكبير الى الهزات الارتدادية

كلمة الطليعة :

من الزلزال الكبير الى الهزات الارتدادية

من المعروف في علم الزلازل ، انه بعد كل زلزال طبيعي ، عالية درجاته كانت او منخفضة ، تعقبه هزات ارتدادية بعضها يكون قوياً ومحدثاً تصدعات وبعض اخر يكاد لايشعر به احد. وكما جغرافية الارض عرضة للزلازل بسبب الاختلالات والتفاعلات في طبقات باطن الارض ، فان الامر نفسه ينطبق على الجغرافيا السياسية بسبب الاختلالات في موازين القوى التي تضبط العلاقات الدولية . وهذه الظواهر الطبيعي منها والسياسي ، قديمة قِدم تكون الارض بالنسبة للاولى ،وقِدم تكوين الاجتماع السياسي بالنسبة للثانية ، وقيام الدول وما طرأ عليها من تقدم في مفاهيم ادارة الحكم ، وامتلاك القدرات المادية من اقتصادية وعسكرية وتقنيات التنكولوجيا ذات الوظيفة المزدوجة لناحية استعمالها في الاتجاه الايجابي الذي يساهم في تطوير بنى المجتمعات أو في الاتجاه السلبي الذي يوظفه من يملكه ، في السيطرة على الاخر في اطار الصراع وتصادم المصالح .
كثيرة هي الزلازل الطبيعية التي شهدتها الطبقات الارضية ولما تزل ، ومثلها الزلازل السياسية التي تعصف بالمجتمعات البشرية المنتظمة في اطر دول على مساحة الكرة الارضية. وهذه الزلازل السياسية اما ان تكون ذات تأثير عالمي بحسب مركزية الفالق الذي ينطلق منه الزلزال ،او ان تكون ذات تأثير موضعي في نطاق قارة او اقليمي بحسب مركزية الفوالق السياسية.
على مدى القرن المنصرم ، شهد الكون السياسي ثلاثة زلازل كونية ، الاول ، هو زلزال الحرب العالمية الاولى ، والثاني، زلزال الحرب العالمية الثانية ، واما الثالث ، فهو انهيار النظام الدولي الذي كان قائماً على ثنائية استقطابية استمرت حوالي اربعين سنة.
ان هذه الزلازل ولدت هزات ارتدادية في العديد من مناطق العالم ، والشرق الاوسط عامة والمنطقة العربية خاصة لم تكن بمنأى عنها .وهو ماأدى الى انبثاق حدود سياسية لكيانات ، واسقاط حدودٍ لكيانات اخرى .
ان الزلزال الثالث الذي قوض ركائز التوزان الدولي بتهاوي احدى ركيزتيه ، كانت تداعياته سريعةً على كل الهياكل والبنى الدولية والقارية والاقليمية التي تشكلت في ظل ذاك النظام قبل انهياره.
لقد كانت اولى ضحايا هذا الزلزال المدوي ، حركة عدم الانحياز ،التي وان كانت ماتزال موجودة كهيكل سياسي ، الا انها اصبحت دون فعالية وتأثير في السياسة الدولية . وثاني الضحايا ، كان البلقان الذي كان الاتحاد اليوغسلافي يشكل حوضه الاساسي ، وثالث الضحايا كان الوطن العربي.
لقد تعرض البلقان لهزة ارتدادية قوية جداً كانت نتائجها بمستوى الزلزال القاري الذي قوض الاتحاد اليوغسلافي الذي شكل على مدى اربعة عقود نقطة التوازن في اوروبا بين القطبين الدوليين ، وكانت من نتيجة هذه الهزة الارتدادية المزلزلة فكفكفة عرى الاتحاد اليوغسلافي وانبثاق كيانات سياسية ارتسمت حدودها بحدود الاكثريات الدينية في تلك البقعة الاوروبية وبعد صراع دامٍ بين مكوناته المتنوعة دينياً وقومياً.
اما ثالث الضحايا للزلزال الكوني ، فكانت الهزة الارتدادية التي كانت قوتها بمستوى الزلزال الاقليمي الذي انطلق من الفالق العراقي ، وولدت بدورها هزات ارتدادية غطت بتداعياتها المنطقة العربية وخاصة القسم المشرقي منها .
ان التفاعلات السياسية التي عاشتها وتعيشها اوروبا بعد الهزة الارتدادية التي ضربت قلب اوروبا انطلاقاً من الفالق اليوغسلافي ، افرزت نتائج سياسية لعل ابرزها الحرب الدائرة في الشرق الاوروبي حالياً بين روسيا الاتحادية واوكرانيا التي يقف الغرب وراءها سياسياً وحلف شمالي الاطلسي عسكرياً . أما التفاعلات التي ظهرت بعد الهزة الارتدادية التي انطلقت من الفالق العراقي فإنها لم تقتصر على ساحة العراق وإنما تجاوزت حدود العراق لتطال ساحات اخرى محدثة تقويضاً في بنى كيانات دولاتية عربية وتفسخات في البنى المجتمعية لهذه الكيانات التي باتت على حافة رسم خرائط سياسية لكيانات جديدة ترتسم حدودها بحدود تموضع الطوائف والقبائل والجهويات.
لقد ادى اسقاط الاتحاد السوفياتي ، الى جعل مايسمى “باوروبا الشرقية ” في حالة انكشاف ، مكنّت القطب الاميركي الذي اندفع للاستفراد بادارة العالم للتمدد سياسياً وعسكرياً من اجل اعادة صياغة الحوض الاوربي بكامله وفق مقتضيات ومصالح المركز الاميركي . وهذا الذي تعرضت له اوروبا بعد انكشافها امام التغول الاميركي في عمقها الشرقي ،تعرض له الوطن العربي بسبب اسقاط العراق كياناً وطنياً ونظاماً سياسياً.
هذا الاسقاط الذي ادى الى انكشاف عربي ، مكن قوى دولية واقليمية من التغول في المجال الجغرافي العربي ،وهذا لم يأتِ عرضاً بل حصل بفعل تدخل مباشر من المركز الاميركي اولاً ، وقوى اقليمية غير عربية تستبطن عداء للامة العربية ثانياً .ولهذا فإن كل ماشهدته الاقطار التي تدمرت بنيتها الوطنية من سوريا ولبنان واليمن وصولاً الى ليبيا انما كان نتيجة لتقويض البنيان الوطني العراقي. وإن ماساعد في حصول التصدع البنيوي الذي ضرب ركائز كيانات دولاتية عربية ،هو ادوار تنفيذية ، ادتها ولما تزل ، قوى من داخل هذه الكيانات ارتبطت بمراكز توجيه وتحكم من دول الاقليم التي مكنتها التسهيلات وغض النظر الاميركية من ضرب مخالبها في الجسم العربي ، ودون ان يشكل احراجاً لها رفع شعارات العداء لاميركا ووصفها “بالشيطان الاكبر” . وهذا ما ابقى حالة العداء محصورة في اطارها الظاهري لادراك منها بإن الاستراتيجية الاميركية حيالها، تحكمها خلفية الاحتواء وليس الاسقاط . واذا ما حصل خلاف او تباين بين اميركا وهذه المواقع وخاصة الموقع الايراني ، فهذا الخلاف لاتحكمه قواعد العداء ، وانما الخلاف على حجم الحصص والنفوذ في الاقليم. ولذلك ، فان اميركا لاتضمر عداءً فعلياً للقوى الاقليمية التي حملت على رافعتها الى العمق العربي او تلك القوى المليشياوية التي تم ويتم الاستثمار بها في سياق تمهيد الارضية السياسية لتركيب نظام اقليمي جديد تكون “اسرائيل” وايران وتركيا من ركائزه الاساسية .
فاميركا هي الداعم الاقوى والافعل للكيان الصهيوني ، وموقفها الحالي من العدوان على غزة والضفة الغربية والقدس لايخرج عن سياق ثوابت الموقف الاميركي حيال هذا الكيان. كما ان اميركا لها اليد الطولى ليس بتدمير العراق وتقويض بنيانه وحسب ، بل ايضاً بما آلت اليه الاوضاع في سوريا ولبنان واليمن وليبيا واخيراً في السودان والحبل على الجرار . واذا كان كل عدوان اجنبي على اي قطر عربي مدان وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم ، الا ان اقدام اميركا على توجيه ضربات لقواعد عسكرية تديرها او تستعملها قوى مليشياوية في بعض الاقطار العربية التي تعيش تحت وطأة ازمات بنيوية ،لايعني ان ثمة انقلاباً طرأعلى الاستراتيجية الاميركية في تعاملها مع هذه القوى ، لان الامر يندرج في اطار استراتيجية تقليم الاظافر وليس اقتلاعها وتوجيه الرسائل بالنار ، وضمن هذا السياق تأتي الغارات الجوية ضد مايسمى بجماعة الحوثيين. فاميركا التي عطلت الكثير من المبادرات السياسية لانتاج حل سياسي لازمة اليمن استناداً الى المرجعيات الثلاث : القرار الاممي ٢٢١٦ والمبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني ، حريصة على دور للحوثيين في ترتيبات الحلول السياسية للصراع في اليمن ، لان رؤيتها حيال الازمة في اليمن تنطلق من خلفية اعادة تشكيل اليمن على اساس الولايات وبما يعني اضعاف لمركزية الدولة . فاذا كان اميركا تعتبر ان الحوثيين يهددون الملاحة في البحر الاحمر ، فليس بهذه الطريقة يتم الرد على مايقومون به ، بل بازالة العوائق التي تحول دون اطلاق عملية سياسية على اساس المرجعيات الثلاث ودفْع الجميع ، ومنهم جماعة الحوثيين الى الانضباط تحت سقف الحل السياسي الذي يعيد الاعتبار للشرعية الوطنية التي كانت على قاب قوسين او ادنى من استعادة ميناء الحديدة الى كنف الشرعية واذ بالضغوطات الدولية تحول دون ذلك ،بغية ابقاء منفذ بحري لجماعة الحوثيين يمكنهم من الامساك بواحدة من اوراق القوة في التأثير على واقع الصراع في اليمن .
ان الواقع الذي يعيشه اليمن حالياً ، كما سوريا ولبنان ومنهم الى المدى الابعد في ليبيا والسودان ما كان ليأخذ هذا المنحى وهذا البعد الخطير في تداعياته على البنية الوطنية لهذه الاقطار لولا الانكشاف القومي الذي ظهر بعد اسقاط العراق كياناً ونظاماً. ولذلك فان الذي شهدته هذه الاقطار ، انما كان بفعل الهزات الارتدادية للزلزال التي احدث تصدعات قوية في البنيان القومي انطلاقاً من فالق العراق السياسي والذي لم تقتصره تداعياته على ساحات سوريا واليمن ولبنان ، بل كانت انعكاساته شديدة الوطأة على فلسطين ، وهي التي باتت دون ظهير قومي يقيها سهام قوى الاستثمار بقضيتها وتآمر ذوي القربى.
ان هذا الواقع العربي المثقل بتداعيات الهزات الارتدادية لزلزال العراق ، جعل ثورة فلسطين محاصرة بهذا الواقع السلبي كما بضغط العدوان الصهيوني المستمر والمتصاعد على غزة والضفة الغربية والقدس عاصمة فلسطين .وكي لا يجهض انجاز المقاومة الفلسطينية الذي حققته عملية “طوفان الاقصى” رغم التضحيات الجسيمة التي قدمتها جماهير فلسطين ومقاومتها ، فإن حماية هذا الانجاز ، سبيله مساران : اولاً ، وحدة وطنية فلسطينية تشكل رداً على مخطط التفتيت للجسم السياسي الوطني الفلسطيني ، وثانياً ، اعادة البناء الوطني والسياسي للعراق ، عبر اسقاط العملية العملية السياسية برعاتها الاميركيين الايرانيين ولكن ليس استناداً الى وهم تصادم بين هذين الراعيين ، وانماً استناداً الى ثورة شعبية عارمة شكلت انتفاضة تشرين صورة مشرقة لتجلياتها

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى