Uncategorizedمقالات

هجرة الأدمغة العربية إفراغ الأوطان من رأسمالها البشري نعمت بيان – مستشارة المرأة والطفل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الدول الاسكندنافية، وعضو الهيئة الإدارية في منظمة المغتربين العرب في السويد

هجرة الأدمغة العربية
إفراغ الأوطان من رأسمالها البشري

نعمت بيان – مستشارة المرأة والطفل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان في الدول الاسكندنافية، وعضو الهيئة الإدارية في منظمة المغتربين العرب في السويد
8/8/2024
هجرة الأدمغة ومسبباتها
إن ظاهرة هجرة الأدمغة ليست بظاهرة جديدة على المجتمعات ، بل هي ظاهرة قديمة ، متجددة حيث يسعى الإنسان دوما” إلى إيجاد ظروف حياة أفضل. ولكن هذه الظاهرة استفحلت في العقود الأخيرة خاصة في المنطقة العربية والأسباب متعددة، أبرزها الحروب والإحتلالات التي المّت في العديد من البلدان العربية، ناهيك عن الظروف الاقتصادية السيئة، وضيق هامش الحريات السياسية ، كما أنه لا يمكن إغفال العامل الإجتماعي كمُحفز على الهجرة لما تقدمه الدول المُستضيفة من امتيازات على صعيد الصحة والتعليم وتوفير الأمن والآمان التي يفتقدها المهاجر في الوطن الأم، تُضاف إليها أسباب أخرى مثل، عدم إشراك الكفاءات العربية في التخطيط الاستراتيجي ووضع برامج التنمية والتطوّر العلمي والصناعي، وضعف الميزانيات المخصصة لتطوير البحث العلمي والنقص في مراكز الدراسات والبحوث، وعدم إيلاء الإعتبار اللازم للعلم والعلماء وإحلالهم المكانة الاجتماعية اللائقة، والتقصير في تطوير مناهج التعليم وخاصة التعليم العالي، حيث تحتل الجامعات العربية مراكز دنيا في ترتيب الجامعات الدولية إلا القليل منها حافظ على مكانته، إضافةً إلى افتقار البرامج الحكومية في أغلب الدول العربية إلى عناصر الجذب ومنها تقديم أجور مرتفعة للعلماء وتقديرهم المعنوي وتخفيض الضريبة على دخل العلماء، وإيجاد بيئة علمية متميّزة.
ولأن نهضة الغرب تعود لكفاءات شعوب الدول النامية، وهذا الشيء تدعمه الأرقام والحقائق، حتى الغرب يعترف بهذا الأمر، أوجد هذا “الغرب” برامج وسياسات فعالة لجذب الكفاءات، حيث أن الدول الكبرى تتنافس لجلب هذه العقول التي لا تهاجر فقط لأن الغرب جاذب لها، بل لأن الدول النامية تمتلك بيئة طاردة لها، حيث لا يوجد تقدير للعقول، ولا فرص عمل تتناسب مع هذه الخبرات، ناهيك عن الفساد الإقتصادي والسياسي الذي له دور كبير في طرد هذه الكفاءات. وفي بعض الدول إذا لم يُقدم المتميزون الولاء للطبقة السياسية الحاكمة، يتعرضون للضغوط ويكون الحل الوحيد أمامهم هو الهجرة. ويعزو التقرير العربي الأول للجامعة العربية حول العمل والبطالة ارتفاع معدل الهجرة إلى تزايد القيود المفروضة على حرية ممارسة االبحث العلمي والفكري الحر في أغلب الدول العربية، وما يترتب عليه من شعور متزايد بالإغتراب للكفاءات العلمية والفكرية داخل أوطانها وترقبها فرص الهجرة إلى الخارج.
ويُضاف إلى الأسباب التي ذُكرت أعلاه، متطلبات السوق العالمي وقواعد العرض والطلب ، حيث أن الدول التي بحاجة لهذه الثروات البشرية، تضع سياسات مغرية لإنتقاء الكفاءات العلمية مثل الأطباء والمهندسين والباحثين الجامعيين، الذين تتعامل معهم من مبدأ المواطنة الإقتصادية، أي كل من يُسهم في الإقتصاد وفي بناء الدولة يُصبح قيمة مُضافة للدولة، له ذات الحقوق التي يتمتع بها المواطن الأصلي.
إن أكثر الدول التي تستقطب هذه الكفاءات هي الولايات المتحدة الأميركية وكندا واستراليا وبعض دول أوروبا الغربية مثل فرنسا والمانيا وبريطانيا. الولايات المتحدة الأميركية تحديدا”، عملت جاهدة لجذب هذه الكفاءات، ولهذا الغرض وضعت استراتيجيات لجذب الكفاءات العلمية العالية، لأنها تعتبر إن الإقتصاد المعرفي هو أمن قومي لها. فكم استفادت من خبرات العلماء العراقين، والأطباء اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين الذين يُقدر عددهم بالآلاف، وغيرهم من الجنسيات الأخرى، الذين حصلوا على حقوق كاملة وامتيازات عالية، ليس حبا” بهم بقدر الإستفادة من خبراتهم ومقدراتهم العلمية ، بحيث مهما كانت الكلفة عالية، فإن مردودها أعلى على الدولة.
وفي هذا السياق، تُظهر العديد من الدراسات أنّ الوطن العربي يتكبّد خسائر تضاهي ثلث طاقاته البشرية بسبب هجرة العقول هذه، وأنّ 50% من هؤلاء أطباء، و23% مهندسون من ذوي الكفاءات العالية واساتذة جامعيين، فضلًا عن تخصّصات علمية أخرى في مجالات العالم الرقمي والتكنولوجيا والفيزياء النووية. وفي هذا المجال، يكشف تقرير حديث لموقع “غلوبال اكونومي” المتخصّص في دراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، أنّ سوريا أكثر الدول العربية معاناةً من هجرة العقول لمؤشر يصل إلى 8.1، يليها المغرب بـ7.4، واليمن 6.7، والعراق 6.4، ولبنان 6.3، وتونس 5.5، والجزائر 5.4، ومصر 5.1، وبلدان أخرى لا يتسع المقام لذكرها جميعها. بينما يكشف التقرير العالمي الصادر عن منظمة اليونيسكو لرصد التعليم في الدول العربية لعام 2019، أن أعلى معدلات الهجرة للأدمغة تشهدها كل من لبنان والمغرب على وجه الخصوص، حيث يهاجر واحد من كل 4 أشخاص من ذوي الكفاءات العالية.
من جهته، كشف تقرير صادر عن البنك الدولي أن الهجرة العالمية انتشلت الملايين من الناس من براثن الفقر وعززت النمو الاقتصادي، إلا أن بلدان المقصد تخاطر بفقدان قدرتها على المنافسة عالميا على المواهب وترك فجوات كبيرة في أسواق العمل بعدم تنفيذ سياسات تتعامل مع قوى سوق العمل وعدم إدارة التوترات الاقتصادية قصيرة المدى. ويقول التقرير، الصادر بعنوان “الانتقال من أجل الرخاء: الهجرة العالمية والعمل”، إن الفوارق الكبيرة والمستمرة في الأجور في جميع أنحاء العالم تمثل الدافع الرئيسي للهجرة الاقتصادية من البلدان منخفضة الدخل إلى البلدان مرتفعة الدخل. وكثيرا ما يضاعف المهاجرون أجورهم ثلاث مرات بعد أن ينتقلوا إلى بلد جديد، مما يساعد ملايين المهاجرين وأقاربهم في بلدانهم الأصلية على الإفلات من براثن الفقر.
ورغم إغراءات الأجور المرتفعة، فقد ظلت أعداد المهاجرين كنسبة من سكان العالم دون تغيير في معظمها لأكثر من خمسة عقود، حتى مع التوسع الكبير في التدفقات العالمية للتجارة والاستثمار بشكل كبير خلال هذه الفترة. وبين عامي 1960 و 2015، تقلبت نسبة المهاجرين في سكان العالم بشكل محدود بين 2.5% و 3.5%، مع بقاء الحدود الدولية للبلدان، وبعد المسافة، والثقافة، واللغة كعوامل إعاقة قوية.
انعكاسات هجرة الأدمغة
في العام، يُمكن القول إنّ الهجرة في “معناها الشامل والإيجابي ظاهرة إنسانية ساهمت بصورة كبيرة على مستوى التلاقح الحضاري، وانتشار المعرفة والعلوم والثقافات ولا يمكن أن نقرنها فقط بمظاهر سلبية، كما ساهمت في تحسين الوضع الاقتصادي ولو بشكل محدود من خلال التحويلات المالية وبعض الاستشمارات لأموال المغتربين/المهاجرين في البلد الأصل. لكن في المقابل وبالنظر إلى تعقد العلاقات الدولية وتباين التنمية بين دول ضعيفة تصارع من أجل البقاء والتنمية وتوفير أساسيات الحياة، ودول تعيش الرفاه والتقدم، أصبحت هذه الظاهرة تواجه الكثير من الإشكاليات، ومن أبرزها الهجرة غير النظامية والهجرة القسرية وتهريب البشر، وأيضًا هجرة العقول، عدا عن إفراغ البلد الأصل من هذا الرأسمال البشري.
أما عربيا” ، فقد تمخض عن هجرة الأدمغة العربية آثار سلبية على واقع التنمية في الوطن العربي في شتى المجالات، أبرزها المجال التعليمي الذي يتأثر بشكل مباشر والذي تسبب في إحداث خلل في سيرورته الطبيعية، من خلال إفراغ البلاد من هذه الكفاءات التي لها دور أساسي وفعال في عملية البناء والتطور والتنمية. وأن كثير من الدول العربية مثل منطقة المغرب العربي والأردن ومصر واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين والسودان وليبيا والعراق، تواجه نزيف هجرة الكفاءات إلى الغرب، حيث استطاعت الدول المُستضيفة أن تخلق لهم شروط حياة أفضل.
هل من سبيل لوقف هذا النزيف البشري؟
إن ظاهرة هجرة العقول والكفاءت لن تتوقف لطالما شروط توقفها غير متوفرة، نظرا” للظروف والمتغيّرات السياسية والاقتصادية والأمنية في الدول النامية وخاصة الدول العربية، لكن من الممكن إيجاد السبل للحد منها أو على الأقل الإستفادة منها في عملية التنمية ، إذ على حكومات الدول التي تعاني من موضوع هجرة الإدمغة الى اعتماد سياسات واستراتيجيات تقوم على الارتقاء بالمستوى التعليمي ليقارب المستويات الخارجية في كل الجوانب، المادية والمعنوية، بحيث يُحفز صاحب الكفاءة على البقاء في وطنه، وأيضا” من خلال ربط الكفاءات المهاجرة وامكانياتها بالبلد الأصل، لانهم يشكلون إحدى المداميك القوية في البنيان الإقتصادي للبلد الأصل.
هل قضية هجرة الأدمغة نعمة أو نقمة على الدولةـ؟ هذا يتوقف على كيفية معالجة الأمر، أحيانا يكون البلد فقير في الموارد الطبيعية ولكنه غني بالموارد البشريةـ، لذا يمكن الاستثمار في هذا المجال عبر تصدير هذه الكفاءات، ولكن بشرط أن تبقى الدولة على تواصل وبناءعلاقة قوية مع المهاجرين، بحيث يتحولون إلى مصدر دخل قومي من خلال تحويلاتهم المالية واستثماراتهم في البلد الأم. كوبا مثلا”، دولة وفقيرة، لكن لديها دخل قومي يبلغ حوالي 11 مليار دولار أميركي سنويا” من تحويلات الأطباء المهاجرين، وهي أكبر مصدّر للأطباء في العالم، وكذلك الهند، عندها أكبر عائد من تحويلات المغتربين يتجاوز الـ 100 مليار دولار سنويا”، وهذا نتيجة تواصل العلاقة بين الدولة والمغترب، التي لم تتخل عنه.
في المحصلة، إن قضية هجرة الأدمغة العربية أصبحت مشكلة على مستوى الوطن العربي، واإن شأنها شأن كافة الأزمات التي نعاصرها في حياتنا، وهذه القضية باتت تتطلب وقفة جادة من خلال إبراز مكامن الخلل، مع إيجاد خطط واستراتيجيات ناجحة تهدف الى الحد من هذه الظاهرة التي تستنزف البلاد من خلال خسارة هذا الرأسمال البشري ، وحسن إدارتها على الصعيدين الوطني المحلي والعربي.
على الصعيد العربي، هناك أجراءات ممكن اتخاذها للحد من هذه الظاهرة من خلال الجامعة العربية والمنظمات والهيئات المعنية بهذا الموضوع، كانشاء مراكز لإدارة الكفاءات على مستوى الدول العربية ، ووضع برامج وطنية لمواجهة هجرة العقول وانشاء مراكز للبحوث التنموية والعلمية والتعاون مع الهيئات الدولية والاقليمية بهذا الخصوص، وتخصيص ميزانيات للأبحاث والمشاريع التنموية، بالإضافة إلى حث الحكومات العربية على تعزيز الروابط مع أصحاب الكفاءات المهاجرة ومنحهم الحوافز لتسهيل عودتهم إلى أوطانهم والمشاركة في عملية التنمية، وإعادة النظر في سلم الأجور والرواتب التي تُمنح للكفاءات العلمية العربية العالية مع تقديم حوافز مادية ترتبط بالبحوث والنتائج .
بالختام، إن إيجاد الفرص من خلال الإستثمار في الكفاءات العلمية أمر جوهري وأساسي لتعزيز التنمية والتطور ومواكبة التكنولوجيا الحديثة، فهل يدرك المعنيون فداحة إهمال هذا الأمر وانعكاساته على المجتمعات ؟؟؟

1:https://www.albankaldawli.org/ar/news/press-release/2018/06/14/global-migration-can-be-a-potent-tool-in-the-fight-to-end-poverty-across-the-world-new-repo

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى