مقالات

هل يتعامل العرب مع اللحظة التاريخية الراهنة؟ لماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ حسن خليل غريب

هل يتعامل العرب مع اللحظة التاريخية الراهنة؟
لماذا؟ ومتى؟ وكيف؟
حسن خليل غريب

بعد ما ينوف على ثلاثة أرباع القرن من تجارب الحروب النظامية، وتجارب الكفاح الشعبي المسلح، وبعد أن تحوَّلت القضية الفلسطينية إلى أهداف عصية على التنفيذ، بسبب الظروف والصراعات التي خاضتها المنطقة، كان لا بُدَّ من إطلاق صرخة جديدة على المألوف الثوري العربي. ونحن لا نقصد بالمألوف هنا أهداف التحرير الثابتة، بل نقصد المألوف من وسائل إنجاز تلك الأهداف.
في دراسة سابقة عن القضية الوطنية الفلسطينية تاريخياً، ومآلاتها بعد طوفان الأقصى، تأكد لنا أنه طوال أكثر من ثلاثة أرباع القرن، ورغم كل المخاضات الكبيرة والتضحيات الجسيمة التي بذلتها الأمة العربية في سبيل القضية، بجيوشها النظامية وبمقاومتها الشعبية المسلحة، الا أنها لم تحرز ولو قسطاً ضئيلاً من أهداف التحرير، لا بل تحولت تلك القضية، الى واجهة للمزايدة وغطاء لإضفاء شرعية على ما هو غير شرعي من قبل بعض الاطراف العربية وغير العربية، او إلى كرة تتقاذفها مصالح الخارج وأهواؤه إلى أن أُسِرت في قفص اتفاقية أوسلو في سنة 1993، وتُركت لقمة سائغة للكيان الصهيوني لكي يفصِّل لها الثوب الذي عليها أن تلبسه، وتقديم لقمة الخبز التي عليها أن تشبع منها، على قلتها وتقنينها.
وبسبب ما شهده الوطن العربي من تحديات جسيمة نتجت عنها حروب وصراعات شغلت اهتمام الانظمة كما حركة التحرر العربية، كاد غبار النسيان على هشاشته أن يطمس معالم هذه القضية، لولا أن كانت تعيدها إلى الحياة دائما سلسلة الانتفاضات الفلسطينية التي لم تنقطع.
وفي المرحلة السابقة بعد حدوث انشقاق الصف الفلسطيني باستلام حركة حماس السلطة في قطاع غزة، كان هذا الاستلام ولفترة طويلة مسكوتاً عنه من قبل الكيان الصهيوني، ربما من أجل إضعاف القضية بشرذمة القوى الفلسطينية بين الضفة والقطاع. وإن كانت اللحظات والوقائع التاريخية سجنت القضية في مساحة اتفاقية أوسلو الجغرافية الضيقة، فمن رحم أوسلو من جهة، والمتغيرات الدولية من جهة اخرى وُلدت تجربة جديدة، وظروف جديدة ربما تشكل لحظة تاريخية.
لماذا تعد المتغيرات الحالية لحظة تاريخية يتحتم التعامل معها؟
جاء توقيت عملية طوفان الأقصى في ظروف متغيرات تاريخية قد تكون مفصلية في التاريخ الدولي الراهن، ويمكن أن نلخصها بما يلي:
• بعد غرق أميركا طوال ثلاثين عاماً بحلم حكم العالم بقطبية أميركية واحدة، كان غرقها نتيجة لمغامراتها العسكرية باستخدام استراتيجية (الصدمة والترويع). وفيها وقعت في الكثير من الأخطاء الكبرى. وكان الهدف الأساسي منها هو ضمان استمرار السيطرة الكاملة على بترول الوطن العربي، لأن من يسيطر على البترول، كما قال الرئيس أيزنهاور: (يسيطر على العالم).
وفي الواقع فإنه عندما بدأت أميركا بتنفيذ استراتيجيتها هذه، كانت مسكونة بأحلام وردية أوحى بها سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991. إلا أنه لم تمتد فترة الأحلام إلى أبعد من العام 2011، عام المباشرة علناً بتنفيذ مشروع ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد (المعلن سابقاً)، والذي تأخر بعد فشل الغزو العسكري للعراق، وفيه أضافت إلى أخطائها أخطاء كثيرة. وكان من أهم نتائج تلك الأخطاء:
• تحفيز الدول الكبرى، وبالذات روسيا والصين، للبدء في تقويض الحلم الأميركي، والعمل على صياغة نظام عالمي جديد تقوده أكثر من قطبية واحدة.
• فقدان مصداقيتها مع حلفائها من الأنظمة العربية. ووضع بعضهم في دائرة العداء لأول مرة في تاريخ العلاقات العربية – الأميركية، وتعزيز العلاقة مع القوى العظمى الاخرى المتزايدة القوة العسكرية والاقتصادية.
وقد تضافر العاملان الاخيران لتشجيع مواجهة القوة الأميركية، وترجم هذا التضافر إلى وضع رؤى استراتيجيةٍ من بينها النمو الاقتصادي القائم على شكل اتفاقيات اقتصادية شعارها وميدانها وقف الحروب في المنطقة بهدف إنعاش هذا النمو.
• مستفيدة، وحذرة في نفس الوقت من نتائج الاستراتيجية الأميركية العسكرية، استفاقت روسيا الاتحادية التي لا تزال تحتفظ بترسانتها النووية لتبوَّؤ مكانتها في هذا العالم الآخذ في التغيّر.
• ومن دون تفصيل حول هذا الجانب، كان المارد الصيني قد بلغ القمة بترسانته الصناعية ودخل منافساً بقوة للولايات المتحدة الأميركية على الصعيد العالمي.
• وفي الوقت الذي أخذت فيه روسيا والصين تتسللان من الثقوب التي تركتها العنجهية العسكرية الأميركية في المنطقة، وتحققان نتائج إيجابية في مجال توقيع اتفاقيات اقتصادية، جاءت عملية طوفان الأقصى في هذه المرحلة الانتقالية لتشكل المتغيّر الذي أحدث ما يشبه الزلزال والذي لن تتوقف ارتداداته حتى تستقر أوضاع الشقوق وتمتلئ فراغاتها بصياغة نظام عالمي جديد، يخطط لبناء استراتيجية ” لشرق أوسط جديد” ، يمكن تسميته بـ(طوفان شرق أوسطي)، يدّعون في العلن انه سيكون قائماً على بناء نظام خالٍ من الحروب والقلاقل مهما صغر حجمها !! في حين ان الحسابات المخفية والاثمان التي من المتوقع ان يدفعها الفلسطينيون والعرب شيء آخر.
عملية عسكرية فلسطينية، تلاقت مع لحظة من اللحظات التاريخية الدولية (التي تزعم انها تعمل على إخماد نيران عسكرة المنطقة)، أعطاها التلاقي زخماً استراتيجياً، لتشكل مدخلاً أساسياً للتأكيد على أن اخماد نيران المنطقة لا يمكن أن يكتمل من دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية ومنح الحقوق الكاملة لشعبنا في فلسطين المحتلة.
لقد تضافرت تلك العوامل مجتمعة، بالإضافة إلى فشل التحالف الصهيوني – الغربي بالقضاء على المقاومة الفلسطينية بكل اشكالها عبر السنين، لإحداث متغيرات هامة في المجتمعات الغربية. وظهرت المفاجأة الكبرى في الإجماع الغربي، الأميركي والأوروبي، على الترويج لحل الدولتين، الذي من دونه، كما أجمعت تلك الدول، ستبقى المنطقة على صفيح ساخن، وبه سيفقد المحور الغربي كل مصالحه في الوطن العربي، هذا بالإضافة إلى توقيف عجلة التطبيع مع العدو الصهيوني التي كان ذلك التحالف يعتبرها (صفقة القرن).
متى يمكن التقاطها والتعامل معها؟
من المعروف أن العسكرة تعتبر الداء المميت لكل المشاريع الاقتصادية والتنموية الواعدة في اية بقعة في العالم. لذا فتحت العنوان العريض المزعوم، وهو الانتقال من مرحلة عسكرة الوطن العربي إلى تحويله لساحة تنموية تضمن حرية انتقال الرساميل العالمية إليه، جاءت المقاومة الفلسطينية والصمود الاسطوري لشعبنا في فلسطين وتضحياته الهائلة ليُثبت ان لا تنمية رساميل من دون استرداد كامل الحق العربي المشروع في فلسطين، خاصة بعد أن فشلت القوة الصهيونية الهائلة المدعومة بكل وسائل التكنولوجيا الحربية لدول الغرب مجتمعة في إطفاء شعلة المقاومة الفلسطينية أو كسر صمود الشعب الفلسطيني.
لقد اكتسبت المقاومة الفلسطينية تاريخيتها من فرادتها العسكرية ومطاولتها السياسية وتضحيات وصمود الشعب الاسطوري، وما كانت لتؤتي ثمارها لو لم تترافق مع اللحظة التاريخية للمرحلة الانتقالية إلى نظام عالمي جديد من جهة، وكذلك ترافقها مع القرار العربي الذي يقاوم بشدة كل المحاولات الإجرامية لإخلاء فلسطين بترحيل أبنائها من غزة والضفة من جهة ثانية.
كما ويقاوم الثمن المشبوه الذي يمكن أن تدفعه فلسطين والعرب معاً والمتمثل بالتدخل الإقليمي وخاصة الإيراني الفاضح، والتفافها على القرار العربي، بتقاسمها النفوذ مع الغرب، ووضع يدها على القضية الفلسطينية تحت حجة دعمها، من جهة ثالثة.
وبقدر ما ينطوي عليه الموقف وتطوراته من مخاطر جسيمة، وتضحيات غير مسبوقة فلسطينياً وعربياً، فان اللحظة التاريخية المتمثلة في الزخم الشعبي العالمي الذي تطور لصالح قضية شعبنا في فلسطين، وفي مثل هذه التطورات الدولية لبلورة نظام دولي جديد، تعد فرصة يجب ان يستغلها ويستفيد منها العرب، فقلَّما تتلاقى لحظات تاريخية في وقت واحد، وإذا ما تساءلنا: متى يمكن التقاطها؟ لن نتردد بالقول: إن اللحظة التاريخية لا تنتظر طويلاً، فالاستفادة من العناصر الايجابية فيها، يجب ان تتم بالتوازي مع الوعي والعمل على افشال المخاطر التي ترافقها فلا يكون ثمنها تهجير الفلسطينيين واخلاء غزة والضفة منهم من جهة، ولا تقاسم النفوذ في الوطن العربي بين إيران والكيان الصهيوني من جهة ثانية، ولا تقسيم الاقطار العربية الى فسيفساء يكون فيها هذا الكيان هو القوة العظمى تحت مسمى الشرق الاوسط الجديد، من جهة ثالثة. ومن هنا فعلى كافة المعنيين بالأمر على كافة الصعد من النظام العربي الرسمي، والقوى الشعبية العربية، والقوى والفصائل الفلسطينية إدراك ذلك والتنسيق من أجل التصدي له.
وبعد أن استُهدِفت الدول العربية عبر تاريخ الصراع العربي – الصهيوني- بشتى المؤامرات والضغوط بسبب جهودها لتحرير فلسطين والتي نتجت عنها خسائر فادحة للأقطار العربية والجيوش الرسمية، وتحييد النظام الرسمي عن هذا الهدف، ولأن الكفاح الشعبي المسلَّح لم يستطيع أن يقوم بتلك المهمة، وتوقَّف دوره عند المحافظة على هوية فلسطين العربية. ونتيجة لهذا الاستقراء التاريخي، لذا تشكل الظروف الراهنة محطة تاريخية وعاملاً مهماً يحتم اللقاء بين العمل السياسي العربي الرسمي وبين استراتيجية الكفاح الشعبي المسلح، لكي يتكاملا في هذه اللحظة ويتخادمان في وضع القضية الفلسطينية على مسار الحل العملي والواقعي، في الوقت الذي يتم العمل على حماية الامن القومي العربي ومستقبل الامة وهويتها ووجودها.
وأخيراً، يبقى السؤال: وكيف يمكن التعامل معها؟
يقول المثل الشعبي: (صاحب الأرض أدرى بشعابها)، و(من يأكل العصيَ ليس كمثل من يَعِدَّها)، وهذا يقودنا إلى اعتبار الفلسطينيين أولاً، والعرب ثانياً، هم أكثر ما ينطبق عليهم المثلين. وعليهم تقع مسؤولية اتخاذ القرار، والوقوف على كافة تفاصيله بما في ذلك صياغته بشكل محكم كي لا يتضمن أي قرار يشارك به الآخرون ألغاماً تقضي لجان التفاوض الأيام الآتية بالانشغال بتفسيرها.
في هذه المرحلة، ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني تتلاقى عقارب الساعة لأكثر من قوة دولية وعربية، على محور واحد، محور استعادة شعبنا في فلسطين للبعض من حقوقه ليعيش كما تعيش شعوب الأرض قاطبة.
تلتقي العقارب على هذا المحور مؤيدة هذا الحق، كل من الرأي العام الشعبي الأممي، والتحالف الدولي المناهض للإمبريالية الرأسمالية الغربية، والموقف العربي الرسمي، هذا بالإضافة إلى قوى وتيارات حركة التحرر العربي، ويأتي في المقدمة منهم التأييد الشعبي الفلسطيني بفصائله كافة.
إنها لحظة تاريخية جمعت كل تلك القوى، ففرضت بإجماعها على التحالف الغربي الرأسمالي أن يعترف بـحق الشعب الفلسطيني في الحياة، والذي من دون ضمان الوصول إليه سيبقى الوطن العربي – وهو مصدر الثروات التي يسيل لها اللعاب الرأسمالي- على كف عفريت، إذ ماذا تنفعه القاعدة الصهيونية العسكرية المتقدمة بمشروعها التوراتي الغيبي، من دون لبن الوطن العربي وعسله؟
افتراضاً فعلى الجميع ان يبدي اقصى درجات الوعي لما ننتظره من متغيرات في الاستراتيجية الرأسمالية الغربية، ومن هنا ننتظر أيضاً – وبشكل أساسي- أن يلتقط النظام العربي الرسمي ، بما يمتلك من قوة التأثير الاقتصادي، زمام المبادرة للمزيد من الضغط على دول الرأسمال الغربي، وفي طليعته الولايات المتحدة الأميركية، كما على روسيا والصين وغيرها من القوى الصاعدة، لكي يبقى قرار القضية الفلسطينية والوطن العربي بيد الفلسطينيين والعرب ، ولا يسمح بان تتسلط عليهم قوى اقليمية أخطرها إيران، كي تصول وتجول تحت هذه الحجة او تلك، وبمباركة امريكية خفيّة.
وأن يمسك زمام المبادرة لحماية الفلسطينيين من التهجير من غزة والضفة، وحماية الاقطار العربية من مزيد من التقسيم كثمن لحل ” إسرائيلي” – غربي، للقضية الفلسطينية. وأن يبقى موقفه ثابتاً في الدفاع عن حقوق شعبنا الفلسطيني في أرضه الوطنية، وفي مستقبل واعد ومشروع لأبنائه في الحرية والكرامة والعيش الآمن.
وإلى ذلك الحين، وقبل أي شيء آخر، أن تُجمع الفصائل الفلسطينية بكل تشكيلاتها، على وحدة الصف السياسي الوطني الفلسطيني، تحدد أرضيته وسقوفه مبادئ الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.

المقالة تعبر عن وجهة نظر كاتبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى