قصة الكهرباء في لبنان *، وكيف تمددت ” الاشتراكات” واستقوت على الدولة ! نبيل الزعبي .
قصة الكهرباء في لبنان *،
وكيف تمددت ” الاشتراكات” واستقوت على الدولة !
نبيل الزعبي .
رحم الله القائد الراحل الدكتور عبدالمجيد الرافعي الذي عاد الى بلده في العام ٢٠٠٣ بعد تهجير قسري دام عشرين عاماً ، وقد ذُهِلَ لدى عودته عندما استشعر الخطر الكبير الذي يتهدد قطاع الكهرباء في لبنان وهو المناضل الذي خاض يوماً مع رفاقه في الحزب واللجان الشعبية معركتهم القاسية ضد شركة كهرباء قاديشا لتوفير الكهرباء الى المواطنين وفق قدراتهم المالية لشراء الطاقة ، وكان من اولى نشاطاته بعد العودة اثارة موضوع الكهرباء مع المواطنين ، ولشد ما احزنه وهو يتبادل المشورة معهم في اكثر من ندوة شعبية عقدها في المدينة ، ان يُفاجأ باكثر من جواب يقول له : ولكن عندنا “اشتراك “يا حكيم !
كيف بدأت معضلة الكهرباء ، والى ايِّ دركٍ من السرقات الموصوفة انتهت ، والى متى وتتوقف جلجلة اللبنانيين وهم يفتشون عن النور في فضاء الفساد المظلم !
بدايةً لا بد من الترحُم ايضاً على الوزير والنائب السابق جورج افرام بوصفه آخر وزير “محترم” للكهرباء في لبنان ، وربما ، الطريقة التي دفعته للاستقالة من هذه الوزارة ، تلخِّص حقيقة ما رُسِمَ للكهرباء في لبنان من مصيرٍ متعثِّر قادها الى الشلل التام منذ العام ١٩٩٢ مع تشكيل اولى حكومات الرئيس رفيق الحريري ، حينما كانت بؤر الفساد تنمو بشكلٍ تدريجي ومنظّم على هامش مسيرة الاعمار ، وكأنه قد ساءهم ان يخرج الوزير النظيف الكف ، على اللبنانيين يومها وفي مقابلة متلفزة يعلن ان الكهرباء ستكون مؤمنة على مدار الساعة قريباً جداً وليضيف : ان ما لدية من الطموح يجعله يؤكد ان لبنان سيملك المقدرة على بيع ما لديه من فائض كهربائي بناءاً على الخطة التي ينتهجها تحقيقاً لذلك .
لم تمضِ اشهرٍ قليلة على هذا التصريح ، حتى دُفِعَ هذا الوزير الآدمي الى الاستقالة ، وهو القادم من عالم الصناعة والناجح فيها بامتياز ، ليخلفه احد امراء الحرب اللبنانيين الذي يُقال ، ان معملي الزهراني ودير عمار مثلاً ، لم يُقَرّ تنفيذهما الا بعد الحصول على العمولة المطلوبة ، ولتكرُّ بعدها سبحة العمولات ويجد اللبنانيون ان حلمهم في الكهرباء لم يكن سوى كابوسٍ طويل من الاوهام واللحس في مِبرَد الآمال الملغومة بالصفقات وليتبين بعدها مدى النزيف الذي هُدِرَ من جيوبهم ليُستَولى فيما بعد على كل ما ادّخروه عبر عقودٍ من السنين خُدِّروا فيها باكذوبة ال ٢٤/٢٤ والبلد مُضَوَّى !
باستثناء الوزير سليمان طرابلسي الذي خلف الوزير الميليشيوي في الوزارة ، لم يتعاقب على هذا المِرفَق الحيوي سوى وزراء معروفين ينتمون الى لونٍ سياسي واحد ، وكان هذا الفريق من الحِرص على هذه الوزاره ، ان يتعامل معها كالمافيا المنظمة التي لا تتورع عن التضحية بكبش فداء من اتباعها عندما تقتضي الحاجة كما حصل للوزير شاهي برسوميان الذي اودع السجن مع بداية عهد الطائف بتهمة بيع الرواسب النفطية ليكون عبرةً لمن يعتبر بعد ان تمكنوا من وضع اليد على هذا القطاع الذي بات يدر اللبن والعسل عليهم وما عاد ثابتاً كم هي آلاف اطنان الفيول التي تستخدم في المعامل ، وكم هي الاطنان التي تُهَرَّب وتُباع بواسطتهم في السوق السوداء .
فقط في لبنان ، عليك ان تترحم على السابقين عندما تجد من يدفعك الى ذلك ممن ينتهجون السياسات الأسوأ والاخطر مما سبق ، ولعل ذلك ما يفسر كيف ان الفريق السياسي الآخر الذي تولى وزارة الطاقة في العام ٢٠٠٨، قد ادخل مفاهيم جديدة للفساد المغلّف بالاصلاح والتغيير وحمل لواء تدمير هذا القطاع عن بكرة اليه ليتحول شعاره من ٢٤/٢٤ كهرباء ، الى العتمة الشاملة ٢٤/٢٤ .
هل كان امراً طبيعياً ان يجعلك هؤلاء تترحم على من سبقهم لما “انجزوه ” من عمليات فساد غير مسبوقة في قطاع الكهرباء ، وهم الذين يماطلون حتى الساعة في تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء كي لا تأخذ اية صلاحية من طريقهم ،
وان شعورهم بخطورة ما انتهت اليه سياساتهم من فشل ، ليست وليدة اليوم وانما بدأت منذ عمدوا لسنوات مضت الى تكريس الامر الواقع الكهربائي المتمثل بالمولدات والاشتراكات الخاصة ولجأوا الى فتح معارك مع هذا القطاع المستجد بالتوافق مع وزارة الاقتصاد التي كانوا يديرونها ايضاً لتقنينه كبديل عن مؤسسة الكهرباء ، وما ادراك بعد ذلك مما تكشّف من فضائح حول مشاركة اكثر من طرف سياسي في هذه المافيا الجديدة التي يتمولّون من خلالها وقد طُمِس التحقيق فيها بالتواطؤ والترغيب والترهيب والسكوت وغض النظر على طريقة : هون حفرنا ، وهون طمرنا .
لذلك ، لم يعد من العجب ان يقوى نفوذ اصحاب الاشتراكات الكهربائية وتمددهم على كل الاراضي اللبنانية ، واستقوائهم على الدولة ، وتفرُدهم بالتسعير على هواهم ورفضهم تركيب العدادات ومنع كل تدخل في عملهم وقد تحولوا الى مافيا منظمة بكل ما للكلمة من معنى وثمة من يتهم ، انهم يدفعون رشىً لقامات رفيعة في المحافظات والبلديات ، دون ان نغفل الدور الآخر لمافيا المازوت الذي تحول الى مادة استراتيجية عوّضتها عن مادة الفيول في المعامل شبه المتوقفة .
الى كل ما تقدم ، لا امل في كهرباء مستدامة في المدى المنظور ، وسيستشرس اصحاب المولدات الخاصة وهم يقاسمون المشتركين مداخيلهم الشهرية ،
وستغزو الواح الطاقة الشمسية سطوح الابنية والبيوت والشرفات لدى كل من استطاع الى ذلك سبيلاً .
*مهداة إلى روح الدكتور عبدالمجيد الرافعي في ذكرى رحيله السابعة