لبنان ، الحقيقة العارية في موازنة العام ٢٠٢٤ . نبيل الزعبي
لبنان ، الحقيقة العارية في موازنة العام ٢٠٢٤ .
نبيل الزعبي
على إيقاع المهاترات المتبادلة التي لا تخلو من”البلطجة” والتحامل المعيب
وكسب الشعبوية والجدل المتكرر حول شرعية ودستورية الجلسة النيابية او عدمها من ذلك ، في ظل غياب رئيس للجمهورية ، وبعد مخاض طويل من انكباب لجنة المال النيابية على دراسة موازنة العام ٢٠٢٤ وتعديلها ، سواء بشطب بعض البنود وإضافة اخرى والاكتفاء بالقليل منها ، وعلى مدى ثلاثة ايام متتالية في ٢٤و٢٥و٢٦ شهر يناير كانون ثاني، شهد اللبنانيون واحدة من اكثر مسرحيات الخيبة المتواصلة التي لا تفارق يومياتهم ، اقله منذ العام ٢٠١٩ حتى اليوم ،وبما توافق الجميع على ان الموازنة الموضوعة حملت سمتين أساسيتين :
الاولى ، تمثلت في انعدام الرؤية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة،
والثانية ، تدني الصرف على الخدمات العامة واقتصارها على الرسوم والضرائب دون ان تلحظ ما يحتاجه البلد من اصلاح للبنى التحتية والانفاق على المشاريع العامة المتوقفة وكأن المعنيون بها في غيبوبة متواصلة او سبات عميق منقطع عن الزمن .
وعلى طريقة” وجدتها”عندما اكتشف العالم الفيزيائي ارخميدس وهو في حوض الاستحمام ان الماء الذي سقط من حافة الحوض فور دخوله اليه ، يساوي وزن جسده تماماً فخرج عارياً يردد عبارته المشهورة متناسيا ، من عظمة البهجة ، ارتداء ما كان عليه من ثياب ،
على طريقة ” وجدتها” وبالشكل فقط ،دون المضمون العلمي الذي وصل اليه ارخميدس ، طلعت علينا حكومة تصريف الأعمال في مشروع موازنة العام ٢٠٢٤ لتقدم إلى اللبنانيين ” أُعجوبة” مالية جديدة وكانها تقول لهم ، وبدورها ، “وجدتها”، دون ان تغطي نفسها ، ولو بورقة التوت وهي العارية اساساً امام شعبها من اية إصلاحات مالية تُسَجّل في خانة التخفيف على اللبنانيين من ضراوة الأوضاع المعيشية التي يرزحون تحتها، فلم تجد سوى ان تضيف عليهم الضرائب فوق الضرائب ، سيّما وان ما تم نهبه من مدّخرات المودعين قد شارف على النفاذ ، وبعد موقف حاكم مصرف لبنان بالإنابة بوقف اية تغطية مالية للحكومة ، لم تجد الأخيرة سوى ما تبقى في جيوب الناس من فلوس ، اين منها فلوس الأرامل ، كي تتغطى بها فيما أعدّته من موازنة ، جاءت ضرائبية بامتياز ، إمعاناً منها في جعل اللبنانيين يكفرون بهذا البلد ، لمن لم يكفر به بعد ، ولم يعد سوى الصفر ، مسافةً للارتطام الشعبي الحاصل حتماً بعد ان انعدمت كل فرص الاصلاح والتغيير وما عاد لدى الناس ليفقدونه سوى البؤس والإفقار والتجويع .
عاريةً ” حتى من بصيص امل باصلاحٍ مرتقب ، ولو على “قد الحال” البائسة ، تخرج حكومة تصريف الأعمال هذه السنة بموازنةٍ لا تُسمِن ولا تغني ، شأنها كما فعلت في الموازنات السابقة ، فلا تخشى فضيحةً بعد ان راهنت على نشر هذه الموازنة بمرسوم ، إن سقطت في المجلس النيابي ،ولم يعد يعنيها سوى الهروب إلى الأمام ، تسير كالأعمى الذي لا يرى ما يعترضه من عثرات ولا يجد من يعينه على المسير ، وقد استعجل رئيس حكومة تصريف الأعمال عندما وصف موازنته الهزيلة بالإنجاز التاريخي دون ان يترك فسحةً ولو قليلة من الوقت لمناقشتها مع من يعنيهم الأمر من ممثلي العمال وارباب العمل وخبراء المال والاقتصاد ليتشارك الجميع في مراجعتها واعادة نشرها ، ولو ، بالحد الادنى المتاح تطبيقه من بنود حفاظاً على الامن الاجتماعي للّبنانيين ، فلم يكن موفقاً عندما خذلته العبارة ، وكأنه وهو المفروض به الحصافة ، لم يدرِ ان في العجلة الندامة .
هي الحصافة التي خانت رئيس حكومة تصريف الأعمال ثانيةً ، عندما تباهى في منتدى رجال المال والأعمال في دافوس ، ان موازنة العام ٢٠٢٤ جاءت مصفّرةً اي انها لا تتضمن عجزاً مالياً ، متناسياً انها بحد ذاتها موزانةً عجائبية تأخذ فيها الحكومة ولا تعطي ، تكتفي بجمع الرسوم والضرائب ولا تعمل بما يجب عليها إنفاقه كما تقتضي فلسفة الرسوم التي يجب ان تساهم في إنماء البلد والإستثمار في المشاريع واستحداث الجديد منها ، وكلها واجبات شرّعتها القوانين والدساتير وتتهرّب الحكومة منها اليوم ، ولعل ما حصل مؤخراً في ضهر البيدر وانزلاق التربة على الطريق الدولي العام ، وعدم تأمين الاموال المطلوبة لصيانة الطرقات ،وما ادلى به وزير الأشغال العامة تعقيباً عليها ، يكفي لاعطائنا الصورة الحقيقية الواقعية لما يجري ، عندما اخطَرَ المواطنين بدل طمأنتهم ، ان يترقبوا المزيد من الانهيارات التي لن تقتصر على الطرقات بكل تأكيد ، طالما ان الكهرباء لوحدها تكفي لإدانة كل من يتحمل مسؤوليةً عامة ولا يُستَثنى منها احد .
ثلاثة ايام متتالية وجلسات مفتوحة على اثير إلفضائيات ، كانت كافيةً للإضاءة على المنظومة الفاسدة وطريقة ادارتها للبلد ، وكإن اموال المودعين المحتجزة في المصارف لم تعد تعنيها ،وآخر همومها صحة الناس ، فيما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الكسيح عاجزُ عن القليل القليل مما كان يقدمه للمضمونين، صحياً واجتماعياً ، وأسعار الغذاء والدواء تحلّق، بينما التجار يزيدون في جشعهم ، ومستوردي المشتقات النفطية يتسببَّون في ازمة محروقات جديدة في رفضهم لاحد بنود الموازنة المتعلق بفرض الضريبة على ما جنوه من أرباح خلال سنوات التصرف بأموال الدعم الحكومي ، ودكاكين العلم تنتشر على حساب التعليم الرسمي تحت مسمى مدارس خاصة ، ترفض التعامل مع المعلم فوق مستوى الأجير ، والبلديات المفلسة تتهيأ للانهيار ، والعلاقة مع المستأجرين القدامى والمالكين تزداد تأزماً في ظل قضاء منقسم وعدالة استنسابية ، ومع كل ما تقدم تُقَرّ الموازنة باعتبارها افضل الممكن على ايدي من يمثلون زوراً الشعب اللبناني ، فيما البلد ينحو إلى المزيد من الأنهيار ، وهو المكشوف امنياً وسياسياً ومالياً واقتصادياً ويشخص اليوم “عاريا” امام القريب والبعيد ، ليبقى السؤال الاهم : كيف لعسكري جائع ان تبقى لديه حميّةً للدفاع عن وطن تحكمه منظومة فاسدة تسببت في تجويع عياله وتركته يسعى ، متوسّلاً ، لعملٍ اضافي ، مهما كان متدنياً ليسد جوعهم ، وكيف تنتظم معايير السيادة الوطنية وهي المُتَخالَف عليها اليوم بين معناها على الورق وواقعها على الارض ، وهل يكون البلد ام لا يكون بعد كل ذلك ، ام ان من قيامة جديدة له غداً ، او ، ان جهنّم لم تزل تنتظر !