اليوم التالي” هو يوم فلسطين
وحمايته بوحدة وطنية كفاحية
أحمد علوش
أميركا تسعى من خلال حرب الإبادة في غزة إلى “شرق أوسط جديد”لم تنجح في تحقيقه في كل محاولاتها السابقة، والكيان الاغتصابي الصهيوني الذي أحيا كل مشاريعه العدوانية السابقة من اقتلاع وتهجير للفلسطينيين يدرك أن هذه الحرب طرحت مستقبل وجوده ومشروعه العدواني في قلب الوطن العربي، وهو الذي يواجه مآزق سياسية وعسكرية واقتصادية في ظل انقسام حاد داخل الصف السياسي، وتعمق أزمة التباعد بين مكونات تجمع المهاجرين والمستوطنين، وجيش مرتبك يعاني وطأة فعل البطولة في غزة، والصمود في الضفة الغربية.
لأول مرة في تاريخ هذا الصراع الوجودي منذ النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948، وهزيمة الخامس من حزيران عام 1967 ،تُحْدِث المقاومة هذا التحول التاريخي الذي يطرح جدية بقاء هذا الكيان على الأرض العربية الفلسطينية، وترتفع احتمالات بدء مرحلة الزوال ،بعد أن ظن كثيرون أنه باق ومستمر ومتقدم في ظل أجواء الضعف والتراجع العربيين وسباق ظل نظام رسمي عربي نحو التطبيع الذي نقل أطرافاً عربية عديدة إلى المقلب الآخر ومشاركتها في العدوان على فلسطين والإسهام في تجويع الغزيين وحصارهم لأنها عاجزة وغير راغبة في تقديم مساعدات إنسانية لأطفال فلسطين تنقذهم من الموت جوعاً.
في ظل فشل السياسة الأميركية ومأزقها الحاد وترنح العدو وتخبط مشاريعه العدوانية وخططه التوسعية ما زال الحديث عن اليوم التالي لما بعد الحرب على غزة يتنقل بين الأفكار والآراء دون القدرة على وضع تصور واضح وخارطة طريق لهذا اليوم الذي نؤكد أنه سيكون فلسطينياً بامتياز ، إذا أحسن الفلسطينيون استثمار نتائج هذه المواجهة التاريخية وترتيب أوضاعهم الداخلية بما يضمن وضوح أهدافهم الاستراتيجية والمرحلية، وتأكيد وحدتهم الوطنية بديلاً للانقسام والحسابات الفئوية التي تقدم الذاتي على الموضوعي والخاص على العام . فاليوم التالي لن يكون كما سبق ،وبالتالي يصبح لزاماً على جميع القوى والفصائل الفلسطينية التقدم برؤية موحدة وإطار واحد، ما دام الكل يجمع على السعي لتحقيق الهدف المرحلي المتمثل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس.
إن عودة سريعة لقراءة المشهد على كل المستويات تثبت عدة حقائق : في مقدمتها أن الإدارة الأميركية ورغم انشغالها الانتخابي ومحاولات تجميل صورتها ما زالت في المربع الأول في مشاركة العدو حربه على الفلسطينيين التي تعتبرها حرباً على كل العرب والحديث عن خلافات مع تل أبيب ليس إلا ذراً للرماد في العيون ، إذ استمر الدعم الأميركي بكل أشكاله للكيان الاغتصابي، وما زالت الولايات المتحدة ترفض وقفاً دائماً لإطلاق النار، كما أنها عارضت واستخدمت الفيتو ضد منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ، معيدة بذلك الأوضاع إلى أجواء اتفاق أوسلو عندما أكدت أن هذه الدولة يجب أن تكون نتاج مباحثات صهيونية -فلسطينية وسط إجماع صهيوني على رفض ليس قيام هذه الدولة فحسب ، بل مجرد الحديث عن ذلك .والغرب الذي شدد على حل الدولتين عاد وتراجع عن ذلك خاصة (فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، بريطانيا )معتبراً أن الوقت لم يحن بعد للاعتراف بالدولة الفلسطينية ، أما المساعدات الإنسانية فحدث ولا حرج من كذب وخداع أميركي يتلذذ بموت الأطفال الفلسطينيين جوعاً في غزة ليظل أبناء فلسطين مشروع شهادة دائمة. والأنكى من هذا كله أن بايدن الساعي لتجديد ولايته في ظل تصاعد المعارضة في أوساط الشباب وفئات واسعة من الشعب الأميركي يخضع الآن لابتزاز نتنياهو، ويبدي قلقه من كلمته المرتقبة أمام الكونغرس في الشهر القادم .
أن بايدن الذي خسر قطاعات واسعة من الشباب الأميركي ويواجه مأزقاً داخل الحزب الديمقراطي نفسه بالإضافة إلى الأميركيين العرب ، يدرك أن نتنياهو أكثر انحيازاً لمنافسه ترامب وبالتالي فهو يبحث عن خشبة خلاص في محاولة التواصل مع العرب الأميركيين، كما تردد أنه أجرى اتصالات مع إيران إبان مفاوضات ُعمان لضمان تأييدها أو بعض كما مؤيديها في الولايات المتحدة.
النافذة الدولية المشرقة تتمثل بشكل واضح في تأييد 143 دولة لانضمام فلسطين عضواً كاملاً في الأمم المتحدة واعتراف دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، ومقاضاة “اسرائيل” امام القضاء الدولي العدلي والجنائي ،وهذا اتساع في حجم التأييد الشعبي الدولي للفلسطينيين حيث بات كابوس غزة يلاحق الإدارة الأميركية وهاجس بايدن أن لا يعود للبيت الأبيض . فغزة أصبحت الناخب الأول في أميركا مع أننا ندرك أن الخيارات ضيقة بين السيء والأسوأ فالكل صهيوني أو متصهين.
أما على الصعيد العربي، فلسنا بحاجة إلى تسليط الكثير من الأضواء على موقف النظام الرسمي العربي الذي وقف بين مشارك أو متفرج غير عابئ بما يتهدد مصير هذه الأنظمة نفسها في حال نجاح الحرب الأميركية الصهيونية على الفلسطينيين، وقد حدد بيان القيادة القومية الأخير الحالة العربية الراهنة لأنظمة الخنوع والخضوع كما شخص أن الحالة الجماهيرية العربية لم ترتق إلى مستوى الدعم المطلوب وطالب بقيام جبهات شعبية عربية على مستوى الأقطار كما على المستوى القومي.
ويستند بيان، القيادة القومية الأخير، إلى موقف ثابت ورؤية استراتيجية لطبيعة هذا الصراع، فالبعث وعى منذ وقت مبكر حجم الخطر الصهيوني على أرض فلسطين ورأى فيه تهديداً للوجود القومي برمته، وللأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لذلك قاتل البعثيون الأوائل وفي مقدمتهم القائد المؤسس على أرض فلسطين عام 1948، وأدرك البعث أن الأنظمة العاجزة سواء التي كانت قائمة عام 1948 أو الحالية تكرر نفسها اليوم ،وأن فلسطين لن تُحرر إلا من خلال الجماهير، عندما أكد القائد المؤسس “لا تنتظروا المعجزة، فلسطين لن تحررها الحكومات العربية إنما العمل الشعبي المسلح”. كما وصف قضية فلسطين بأنها قضية العصر وثورتها ثورة العصر . كما أن الرفيق القائد الشهيد صدام حسين أكد أن فلسطين في قلوبنا وفي عيوننا إذا ما استدرنا إلى إي من الجهات الأربعة، ودون الدخول في تفاصيل كثيرة نستطيع القول ، أن أحد أهم الأسباب للحرب على العراق وغزوه واحتلاله أن البعث نجح في بناء قاعدة الاقتدار القومي المتجه نحو فلسطين وكان عليه أن يدفع الثمن الذي دفعه بعدما شكل تهديداً حقيقياً للعدو الصهيوني ومن خلفه الولايات المتحدة وكل قوى الشر والعدوان في العالم.
أما على الصعيد الفلسطيني، فقد نجح الفلسطينيون في ممارسة فن المستحيل، وانتصروا في حربهم الطويلة، على كل محاولات تثبيت الواقع وكأنه لا مناص منه ولا خروج، فمن بين الأساليب التي اعتمدها العدو زرع اليأس في قلوب الفلسطينيين والعرب وأن هذا الكيان وحده الثابت والحقيقي والمنتصر والمتفوق . ولكن أبناء فلسطين ومعهم الخيرين من ابناء امتنا العربية كانوا يؤمنون أن الزائف لا يملك صفة الديمومة والاستمرار مهما امتلك من قوة وتفنن في وسائل الإجرام في ممارسته حرب إبادة ومحاولات تذويب واقتلاع . لذلك واصل الفلسطينيون مسيرة تضحياتهم عبر مسار دامٍ طويل وأكدوا أنهم يستطيعون أن يحولوا المستحيل إلى واقع، وهذا سر عظمتهم وانتصارهم.
وأمام ما حققه أبناء فلسطين من انتصار ووفاء لدم الأطفال الشهداء، لا بد من مراجعة شاملة لكي يترسخ هذا النصر ويظل هو الحقيقة على وجه العالم كله. وهنا لا بد من عدة خطوات نؤكد عليها وهي أن الجميع يتحدث عن أهمية الوحدة الوطنية الفلسطينية وضرورتها، وإذا استجمعنا ما كتب وقيل عن هذه الوحدة وما دار حولها في كل الاتفاقات الوحدوية التي جرت في غالبية العواصم العربية ورُحِلّت إلى موسكو ومن ثم بيكين لحصلنا على مجلدات دون ترجمة عملية على الأرض، وبقيت الأمور تراوح مكانها دون التقدم خطوة عملية واحدة ، مع إدراك الجميع أن التماهي الأميركي الصهيوني الذي ينطلق من إلغاء الحقيقة الفلسطينية . وقد أكد نتنياهو أكثر من مرة أنه لا يريد “حماستان” ولا “فتحتان” ،كما أن الرئيس الأميركي يريد سلطة غير هذه السلطة التي يصفها “فاسدة” على حد تعبيره، وهو الآن يتحدث عن “بريمر” جديد. كما أن الحرب على السلطة الفلسطينية أخذت منحاً خطيراً بعد محاصرتها سياسياً واقتصادياً ومالياً بما يهدد بانهيارها . لذلك لا بد من التأكيد أنه في ظل خطورة الوضع الحالي لا بد أولاً ،من التخلي عن الفئوية وحسابات الربح التنظيمي لهذا الفصيل أو ذاك من أجل الحفاظ على ما تحقق طيلة ثمانية أشهر من المواجهة البطولية وثانياً يجب أن يترجم عبر خطوات عملية ملموسة، من خلال انضواء كل الفصائل في إطار منظمة التحرير الفلسطينية والعمل على إنجاز حلقات ثلاث :الأولى ، انضواء الجميع في إطار المنظمة باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني في الداخل والخارج . والثانية ، بدء خطوات جدية لإعادة هيكلتها وتفعيل مؤسساتها ، والثالثة وضع برنامج نضالي عملي يعتمد المقاومة بكل صيغها وأشكالها خياراً للمواجهة مع العدو.
إن الموقف الوطني الفلسطيني الجامع هو الوحيد الذي يحمي الإنجازات التي تحققت عبر مسار طويل من النضال والتضحيات والشهداء ،أما الحسابات الفئوية وتماهي البعض مع ما يجري في الإقليم من ترتيبات فإنه لن يصب في مصلحة القضية الفلسطينية ،بل يعود عليها بالضرر، وأميركا التي تريد ترتيب كل وضع المنطقة وتبحث عن تفاهمات مع الأطراف الفاعلة في الإقليم تركيا، إيران، أثيوبيا من بوابة الأمن المائي مع أرجحية مميزة للكيان الصهيوني، ترى في احتوائها للوضع وفق اجندة اهدافها محاولة جديدة لتصفية القضية الفلسطينية على حساب شعبها وتضحياته وتجفيف ما حققه من انتصارات وإنجازات .
من هنا فإن مستقبل فلسطين يتقرر في الميدان وليس في عواصم تحتضن المباحثات المباشرة وغير المباشرة بين الولايات المتحدة وهذا الفريق الإقليمي أو ذاك .فمستقبل فلسطين يتقرر على أرض فلسطين وليس في أي مكان آخر، وإذا نجح الفلسطينيون في ممارسة فن المستحيل طيلة أكثر من قرن من المقاومة فعليهم النجاح في قطف الثمار ، لا تقديمها لهذا الطرف أو ذاك لتحسين مواقعه التفاوضية على حسابهم وحساب قضيتهم.
غزة الآن هي الناخب الأساس في الانتخابات الأميركية كما هي التي تحدّد مستقبل نتنياهو السياسي داخل أسوار سجنه المتوقع بعد هزيمته الكبرى.