أين المصلحة الوطنية والقومية في التطبيع مع الكيان الصهيوني ؟ د. محمد مراد
أين المصلحة الوطنية والقومية في التطبيع مع الكيان الصهيوني ؟
د. محمد مراد
بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر ١٩٧٣ ، وهي الحرب التي كان يمكن توظيف نتائجها الميدانية في تحرير الأراضي العربية التي احتلتها ” اسرائيل” في حزيران/يونيو ١٩٦٧ ، وكذلك في فرض حلول تستجيب لمصلحة القضية القومية المركزية ،أي فلسطين ، من حيث قيام الدولة الوطنية الفلسطينية وتنفيذ القرار الأممي الرقم ١٩٤ القاضي بحق العودة للاجئي الشتات منذ نكبة ١٩٤٨ الى ديارهم التي هجّرتهم منها قسرا المنظمات الاجرامية الصهيونية . لكن ، المؤسف أن قطرين عربيين ،وهما مصر والأردن ، انزلقا للقبول بعلاقات تطبيعية مع الكيان الصهيوني ، فكانت اتفاقية ” كامب ديفيد” عام ١٩٧٨ ، وهي الأولى التي أبرمت بين مصر – الدولة العربية الأكبر وزنا في الوطن العربي سكانيا وعسكريا وسياسيا ودبلوماسيا – ودولة الكيان الصهيوني . بعد ذلك كانت اتفاقية التطبيع الثانية ، وهي اتفاقية ” وادي عربة” مع الأردن عام ١٩٩٤ ، والتي أدخلت في صلب الدستور الأردني تأكيدا لمدى التزام الاردن بها من جهة ، وإعلانا صريحا بخروجه على الالتزام بقضية تحرير فلسطين من جهة أخرى.
تقدم هاتان الاتفاقيتان المشار اليهما صورة واضحة عن مآلات النتائج التي تحققت لكل من قطري المواجهة مصر والأردن بعد انقضاء من أربعة عقود ونصف العقد على ” كامب ديفيد” ، ونحو الثلاثة عقود على ” وادي عربة ” .
من الأهمية بمكان أن نتساءل عن الوضعين المصري والأردني بعد اتفاقيتي التطبيع ، أي التوقف عند مديات النتائج التي توفرت لكل من القطرين سواء أكانت ايجابية أم سلبية ؟
اولا ، على صعيد مصر :
شهدت مصر – الدولة المركز او الدولة القاعدة في الوطن العربي – تراجعا انحداريا في هيبتها المعنوية والحضارية والقيادية على مستويات ثلاثة : الأول ، اختلال الثقة عند الشعب المصري الذي بات يشكل الكتلة السكانية التي تقترب من المئة مليون نسمة ( حوالي ٢٣ ℅ من اجمالي السكان العرب ) . الثاني ، خذلان الشعب الفلسطيني بشعوره بفقدان قوة الدولة الأكثر وزنا عربيا التي كان يعتمد على مساندتها لقضيته الوطنية التحررية. الثالث ، الشعب العربي الذي اصيب بالاحباط واليأس بخروج مصر العروبة ، مصر جمال عبد الناصر الذي أعلن في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم عام ١٩٦٩ ، أي قبل رحيله بعام واحد ، عهدا قاطعا ثلاثي اللاءات : لامفاوضات ، لا صلح ، لا اعتراف مع الكيان الصهيوني الدخيل على امتنا العربية ، والذي اوجده الغرب الاستعماري لتقسيم الأمة جغرافيا بين مشرق ومغرب بهدف الحؤول دون تحقيقها وحدتها القومية ونهضتها الحضارية.
ماذا قدّمت ” كامب ديفيد” لمصر وللأمة العربية بعد حوالي النصف قرن من التوقيع عليها كاتفاقية تطبيع مع ” اسرائيل” ؟ لنرى في التالي :
١ – تجروء ” اسرائيل” على القيام بحرب عدوانية على فصائل منظمة التحرير الفلسطينية على أثر اجتياح بيروت عام ١٩٨٢ وارتكاب مجازر بحق الفلسطينيين واللبنانيين ( مجزرة صبرا وشاتيلا ) ، واحتلال العاصمة اللبنانية بيروت التي يبقى سقوطها بأيدي الصهاينة وصمة خذلان من الدول الشقيقة وبصورة خاصة مصر الشقيقة الكبرى،حيث تم إبعاد المنظمة بفصائلها المقاتلة الى تونس القطر البعيد عن جبهات المواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني.
٢- استخدام الجيش المصري ( الجيش الذي حمى تأميم قناة السويس وسدّ أسوان وتصدى للعدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الصهيوني عام ١٩٥٦ ) ، استخدام هذا الجيش في القتال الى جانب اميركا ومعها حلف الناتو في حرب ” عاصفة الصحراء” التي قادتها الولايات المتحدة لتدمير الجيش العراقي تحت عنوان ‘ تحرير الكويت” وهي الذريعة التي ابتدعتها اميركا إبان الازمة الكويتية- العراقية التي هي في أساسها مبرمجة أميركيا بدفع الكويت الى افتعال الأزمةللتفويت على العراق خروجه منتصرا في حرب الثماني سنوات مع ايران التي كانت مدوفوعة لتصدير مذهبيتها الثورية الى كل المجال العربي بدءا من العراق..
٣- أين كانت مصر ، وهي القطر العربي بمثابة الأخ الأكبر لباقي الأقطار العربية إبان العدوان الأميركي- البريطاني على العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣ ، واسقاط دولته المركزية ونظامه الوطني وتجربته الوطنية- القومية ، وصولا الى استهداف عروبته كهوية حضارية تاريخية ؟
ألم تدرك مصر ، وهي التي عرفت مبكرا باكورة الأفكار القومية العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر مع رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد فريد ومصطفى كامل وسعد زغلول وصولا الى جمال عبد الناصر، الم تعرف ان احتلال العراق ومحو هويته القومية كان مدخلا لكثافة التغلغل الاستعماري الى سائر المجال العربي ، وافتعال الحروب الأهلية والأزمات الساخنة في غير قطر عربي منذ مطلع العشرية الثانية لهذا القر ن ، والتي ما تزال على مشهدها الدرامي الدموي العنفي في غير قطر حتى اليوم ؟
٤ – الم تدرك مصر ان الولايات المتحدة تعمل على التسويق الاعلامي والسياسي والامني والتجزيئي لكل المجال القومي العربي ، التسويق لمشروع ” الشرق الأوسط الجديد ” ، وهو مشروع من بين اهدافه الاستراتيجية ثلاثة مركزية :
الأول ، تغييب الخصوصية القومية للأمة العربية ، وهي خصوصية اكتسبتها تاريخيا بتشكّلها التاريخي وانتاجها الحضاري الانساني ولغتها المتميزة بتركيبتها ودلالاتها وحيويتها ، حيث اختارها الله لتكون لغة قرآنه المنزل الذي أوحى به على رسوله العربي محمد بن عبد الله ( ص ) ليكون خاتم الانبياء والمرسلين ..
الثاني ، لضمان تفوق ” اسرائيل” في هذا الشرق الاوسط الجديد ، وتمكينها من ترجمة مشروعها التوراتي لقيام دولتها اليهودية الكبرى المرسومة على جدار الكنيست الصهيوني ” من الفرات الى النيل ” .
صحيح أن اسرائيل ليس بامكانها ان تغطي دولتها اليهودية الكبرى المزعومة والمفترضة من الناحية البشرية الديمغرافية ، فعدد يهود الدولة حاليا لا يزيد على ٦ مليون يهودي ، في حين ان الكتلة السكانية العربية تزيد حاليا على ٤٦٠ مليون نسمة ، فالتفوق الاسرائيلي في الشرق الاوسط الجديد المخطط له اميركيا وصهونيا يكون بالمزيد من التجزئة والتفتيت والتشظي العربي الى سلسلة لا تنتهي من الدويلات والكيانات السياسية على اساس المذهب والعرق والجهة والعشيرة ،الأمر الذي يتيح للصهاينة التحكم والامساك بمصائر هذه الكيانات المتشظية الضعيفة التي تبقى في حالة من الحرب والتناحر الدائم.
الثالث ، ضمان التفوق الاسرائيلي أمنيا واقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا وعلميا على سائر الكيانات المهمّشة الضعيفة.
٥-منذ اتفاقية ” كامب ديفيد ” وحتى اليوم ، والاقتصاد المصري في حال من التراجع والعجز ، ففي العام ٢٠٢٠ سجل الدين الخارجي على مصر حوالي ٤٠٠ مليار دولار ، وهو ما يشكل نحو ٩٠℅ من اجمالي الدخل المحلي ، فماذا كانت افادة التطبيع مع الكيان الصهيوني ؟
امر آخر سجلت انفاقات مصر على التطوير والبحث العلمي لعام ٢٠٢٠ ما نسبته ٠،٢٣℅ من اجمالي الناتج المحلي ، في حين سجلت النسبة في ” اسرائيل” اكثر من ٨℅ من اجمالي ناتجها المحلي اي اكثر من الدول العربية مجتمعة بحوالي ٧٠ مرة.
اين موقف مصر المطبّعة مع الكيان الصهيوني من الممر الهندي – الخليجي- الاسرائيلي- الأوروبي ، والذي يجعل القسم الاكبر من تجارة جنوب شرق آسيا والخليج العربي تمر الى اوروبا عبر مرفأ حيفا الفلسطيني المحتل من ” اسرائيل’ ، الأمر الذي يشكل التفافا على قناة السويس ،ويحرم الخزينة المصرية من اكثر من ١٠ مليارات دولار سنويا..
٦- مشكلة البطالة في مصر ،والتي وصلت في السنوات الأخيرة الى معدلات قياسية ، الامر الذي انعكس سلبا على مستويات الدخل الفردي ، وازدياد عدد الجياع والأسر الفقيرة. اين التضامن والتعاون والتكامل الاقتصادي العربي ؟ اين العمال المصريون الذين استوعبهم العراق بالملايين في العهد الوطني السابق ؟
اليس من المصلحة الأجدى والأكثر ضمانا لمصر ان تسعى جاهدة لتحقيق درجة يتبعها درجات من التكامل الاقتصادي العربي ؟ وبالتأكيد هو تضامن وتكامل أيضا في كل مناحي الحياة الاقتصادية والأجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية ،وصولا الى الامن القومي العسكري والامني والسياسي والدبلوماسي والوحدوي بصورة عامة..
اتفاقية ” وادي عربة ” والأردن:
ماذا قدّمت هذه الاتفاقية للأردن مجتمعا ودولة وهوية ومستقبل ؟ انها لم تقدم سوى الاساءة الى هذا القطر الاصيل بعروبته ، سوى الضعف الاقتصادي والفقر الاجتماعي وتدني مستويات الدخل الوطني.. ألم يدرك الأردن ان ما يجري في قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر من حرب ابادة جماعية ومحرقة لم يشهد لها العالم مثيلا في العصر الحديث هي حرب ستكون نتائجها السلبية اول من تطال الاردن قبل غيره بوصفه الاقرب جوارا الى فلسطين المحتلة من ناحية ، ولكون الشعب الأردني مزيجا من الفلسطينيين والاردنيين من ناحية اخرى ؟
الم يدرك الأردن مدى الفائدة التي كان يجنيها من علاقاته بالنظام الوطني في العراق من حيث امداده باحتيجاته النفطية المجانية ؟ فماذا قدمت له عملية التطبيع مع الكيان الغاصب لفلسطين ؟ ألم يقرأ الأردن ما يتردد في غير وسيلة إعلام صهونية وعالمية ان الاحتلال الاسرائيلي يسعى الى تهجير القسم الاكبر من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة الى الاردن ومصر المجاورتين لفلسطين المحتلة؟
ان ما ينطبق على النتائج التي افضت اليها معاهدتا التطبيع مع كل من مصر والأردن ،هي نتائج مرتقبة لكل الاقطار العربية التي استجابت للضغوط الأمريكية والغربية وراحت تبرم اتفاقات تطبيعية مع الكيان ، فكانت دول المغرب والبحرين والسودان والامارات العربية المتحدة ، كانت هذه الدول قد اذاعت معاهداتها التطبيعية مع الاحتلال الصهيوني بصورة علنية ، وهناك دول اخرى منها ما هو مطبع في السر والخفاء دون الجهر بذلك خوفا من ردات فعل شعبية غاضبة، ومنها من يتلقى الضغوطات الخارجية الثقيلة من امريكا وحلفائها من أجل دفعها الى الوقوع في شرك التطبيع مع الكيان المغتصب لفلسطين..
لكل هذه الدول مجتمعة نسابق الى القول :
١ – ان التطبيع لن يجلب لهذه الدول سوى الهزيمة المعنوية والانهيار الاقتصادي والتشطي الاجتماعي والسياسي . وهنا نضع امام هذه الدول وثيقة تسربت من دوائر في الكونغرس الاميركي القريبة من الصهاينة ، وثيقة تفيد بان ” اسرائيل” اعتمدت استراتيجية ” اسقاط دول الهيكل” وهي احدى عشرة دولة عربية تشمل معظم الاقطار المجاورة والبعيدة عن فلسطين المحتلة ، ومع اسقاط هذه الدول تتاح الفرصة المنتظرة للصهيونية خلق الهيكل المزعوم بعد الغاء وهدم المسجد الأقصى ، وهو مؤذن بدخول الدولة اليهودية التوراتية مرحلة التنفيذ المباشر.
٢- إن اقامة الهيكل تدشن لعصر الصهيونية في انجاز دولتها التي حلمت بها منذ المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام ١٨٩٧ . مع هذه المرحلة ينتهي التاريخ العربي الاسلامي ، التاريخ الذي ربط جدليا وعضويا بين العروبة والاسلام في علاقة حياة حضارة ورسالة الى الانسانية..
٣- ألم يكن أجدى لأقطار الأمة العربية المحافظة على تراث هذه الأمة وهويتها ورسالتها الهادفة الى أنسنة العالم على مبادىء السلام والحرية والعدالة والقيم ؟
٤- ألم تدرك أنظمة الحكم العربي الرسمية ان التطبيع مع الكيان المغتصب لفلسطين هو مسألة مرفوضة نفسيا وثقافيا وفكريا وايمانيا دينيا من جميع الشعوب العربية؟ وهنا ، نود التذكير بأن التطبيع سيفضي الى اهتزازات امنية وسياسية وحروب لا تعرف النهاية بين الأنظمة الحاكمة من جهة ، والشعوب المنتفضة على التطبيع والأنظمة المطبعة من جهة اخرى.
٥ – إن مستقبل اقطار الوطن العربي من الخليج الى المحيط لا يكون زاهرا وواعدا الا بقيام الكتلة التاريخية العربية التي تبقى معقد الرهان على سلامة الامة العربية وعلى سلامة مواصلتها رسالتها الخالدة التي خصّت بها كخير أمة أخرجت للناس..
إنّّ التطبيع العربي الرسمي وغير الرسمي مع العدو الصهيوني لن يكون الا لصالح الكيان وتثبيته في المنطقة العربية وع بر سرلى حساب مستقبلها ومستقبل شعوبها .. إن رفض هذا التطبيع المشين بحق الأمة وتاريخها ومستقبلها ، والتراجع عنه من قبل انظمة الحكم الرسمية ، وصمود الانظمة الأخرى بقوة شعوبها وبتضامنها وتكامل علاقاته واا البينية ، هو الرفض الذي يبقى السبيل الوحيد لاستعادة الشخصية القومية للأمة العربية ولوجودها كأمة خصت بحمل رسالات السماء ، فهي امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
إن معركة مقاومة التطبيع هي معركة كل الجماهير العربية ومعها كل القوى الحية الفاعلة من هيئات تشريعية ونقابية واعلامية ومجتمعية على اختلافها ، وفي هذا المجال نولي الأهمية الكبرى على ثلاث هيئات لها مواقعها في مراكز التاثير السياسي والحكومي والشعبي :
الأولى ، دور البرلمانات العربية في التصدي لكل محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني والدول الداعمة له من حلف الاطلسي ( الناتو ) وغيرها . ان البرلمانيين العرب يتمتعون بثقة شعبية وازنة تخولهم مناهضة السياسات الحكومية الواقعة تحت ضغط الخارج للسير في عمليات التطبيع الذي لن يخدم سوى مصالح العدو الاستراتيجية على حساب كل اقطار وطننا العربي من الخليج الى المحط .
الثانية ، تكثيف عقد المؤتمرات الوطنية والقومية لبحث مخاطر التطبيع مع الكيان الدخيل على منطقتنا العربية ، فهناك المؤتمر الشعبي العربي ، وكذلك امؤتمر القومي العربي ، وغيرهما الكثير من الهيئات النخبوية الفكرية والسياسية والثقافية والأكاديمية والعلمية ، على مثل هذه النخبة يتوقف دور مميز وريادي في قيادة الجماهير وتوسيع دائرة الرفض الشعبي الجماهيري للتطبيع بكل مفرداته وعناوينه المزيفة.
الثالثة ، دور وسائل الاعلام من صحافة ودوريات مختلفة ومحطات اذاعة وتلفزيون ووسائل تواصل اجتماعي على تنوعها ، على هذه القوى الاعلامية توجيه برامجها وكتاباتها واعلامها في قيادة حملة جماهيرية واسعة تكشف من خلالها مضار التطبيع مع العدوالصهيوني ، وفضح مخططات الغرب الاستعماري الهادفة الى توفير مناخات مساعدة تخدم استراتيجية الصهاينة في الاحتلال والهيمنة والتحكم بمصير شعبنا وامتنا العربية ومستقبل بقائها ووجودها.
نها لتحديات كبرى تواجه الأمة فهل من استجابة عربية للرد على التطبيع وكل التحديات المهددة لوجودنا العربي وهويتنا العربية التاريخية ؟