كي لا تنهار القِيَم الوطنية والاخلاقية على ايديهم ، أعيدوا إعلام “الشوارع” الى حياض الوطن !
نبيل الزعبي
كذبةُّ كبيرة بلعها اللبنانيون يوم طُرِحَ عليهم عقب مؤتمر الطائف قانونُّ اعلامي عصري يفرض على محطات الاذاعة والتلفزة الخاصة نِسَباً معينة من المؤسسين الموزعين على اكثر من طائفة لبنانية ، كي لا يستأثر طرفُ ما بسياسة المحطة ، المُفتَرَض ان تكون لجميع اللبنانيين وليست حِكراً على مجموعة دينية او إثنية معينة ،
والكذبة الاكبر ، كانت في تشكيل المجلس الوطني للاعلام ، يوم زرعوا في رؤوس اللبنانيين ، انه الرقيب المهني على كل ما يصدر عن المحطات من برامج وتوجيه وتعبئة لمنع ما يهدد السِلم الاهلي والنسيج الوطني الواحد ويعزز الوحدة الداخلية بين جميع اللبنانيين .
امام هاتين الكِذبَتين ، كان اللبنانيون في معمعة حقيقة الاعلام المقرؤ بصحفه ودورياته ونشراته المتعددة ،التي قال في اصحابها الرئيس اللبناني الاسبق شارل حلو عندما استقبل وفداً منهم في احدى ايام رئاسته : اهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان .
قد يدبُّ الحنين في الفؤاد حتماً عند المقارنة بين المقرؤ بالامس والمُذاعُ على الاثير اليوم ، وبين ان تختصم من مصروفك يومذاك، بِضعة قروش لتشتري صحيفتك اليومية بإرادتك الحرة ، وبين ما يغزوك اليوم وبدون استئذان ، من سمومٍ وافكار لا تمت الى المهنية الاعلامية بِصِلَة ، فلا تكتفي بمصادرة العقول والقناعات الذاتية ، وانما تتسلّل كالدخيل عليك في ساعات ايامك ونهارك ، ولحظات التعب والراحة ، فيما ترى نفسك مُجبَراً لا بطل ، وانت تتنقل بين محطات التلفزة اللبنانية ، فلا تخال نفسك سوى انك في مِعازَلٍ طائفية تتوجه الواحدة منها الى شريحة معينة من اللبنانيين دون الاخرى ، وكأنها جميعاً تختلف عن بعضها البعض، ثقافةً وانتماءً وولاء ولا مكان فيها لما يعزز الشعور الوطني الجامع الذي يوحّد ولا يفرّق ، كما يريده قانون المجلس الوطني للاعلام .
وعلى عديد ما تبثه هذه المحطات من ثقافات لا تعترف بالاخرى ، يصدمُك ما تراه من تعبئة آحادية تتجذر يوماً بعد يوم في نفوس شرائح اللبنانيين وعلى امتداد اراضي الجمهورية ، بحيث لكلٍ منها تثقيفها الخاص بها ، القائم على خطاب آحادي مذهبي مناطقي فئوي لا يخص سوى من تربّى في “حدودها” على “ابجدية التسعير السياسي الذي يشيطن الخصوم بقدر ما يقدّس اصحاب السطوة ويرفعهم الى مصاف الاولياء والاطهار ، وما من مبالغة ، ان تتكرر هذه الظاهرة بالوان الطيف السياسي اللبناني الذي يطالعك على جميع المواقع الاعلامية العاملة بعد ان تحول كل منها الى ناطقٍ رسمي للجهة التي تدير وتموّل وتحمي .
انطلاقاً من هذا الواقع الذي تكمن خطورته في تشرُّب الاجيال الناشئة منذ نعومة اظفارهم على ما يتم تلقينهم من افكارٍ يصعب عليهم تقبل غيرها اوالتعايش معها ، لتتحول مع الايام ، الى الآتون الجاهز لكل جولة من جولات الصراع السياسي الداخلي والحروب الصغيرة بين هذا الطرف وذاك ، الى التطوع الغريزي نحو الدفاع الاعمى عن سياسة المعزل الذي تشرّب ثقافته وصار من العجز رفض الرضوخ له ، والتحول التدريجي الى اعتبار الآخر خصماً حقيقياً وربما عدواً جاهلاً لكل فكر تغييري وطني تقدمي توحيدي وحامليه الذين يقبضون على ايمانهم العقائدي هذه الايام كالقابض على جمرةٍ من اللهب ، يصح التساؤل :
-اين قانون الاعلام المرئي والمسموع مما تقدم ، وقد تحول الى مجرد حبرٍ على ورق ، مستمداً خطورته من تنامي الاعلام الفئوي الجهوي الآحادي على حساب الاعلام الوطني الجامع ،
-واين المجلس الوطني للاعلام ، بعد ان تحول الى ” مايسترو ” يدير اللعبة الاعلامية اللاوطنية ، وهو الموزع في تركيبته وانتماءاته على غرار ما تنتمي اليه هذه الوسائل وتعمل بتوجيهه ورشده ،
لتعود وتسأل عن الاعلام الوطني الموحِّد الجامع لكل اللبنانيين فتصاب بعمى الرؤية النقية الصافية فلا تجد سوى اذاعة رسمية يعتريها الاهمال ، من غير المعروف بالدقة كم من اللبنانيين يستمع اليها ،
الى محطة تلفزة يتيمة ، تنازع ولا تجد ما تهرب اليه في ظل الحياة السياسية المضطربة ، سوى اعادتنا الى ما كانت تبثه منذ ما لا يقل عن الثلاثين الى الخمسين عاماً دون ان تملك جرأة الاعلام الخاص وموازناته الضخمة وامكانياته غير المحدودة ،
وبانتظار ان يعود الاعلام الخاص الى الوطن ،لا بد من دق ناقوس الخطر امام الرأي العام اللبناني للتحذير من التدهور الخطير للغالبية العظمى من محطات التلفزة العاملة ومواقع التواصل التي تجاوزت الصراعات السياسية المعروفة ، لتنزلق في ترويج ثقافةٍ جديدة وافدة علينا تهدف الى الحط من قِيَمِنا واصالتنا وتاريخنا ، هي بمثابة الهواء الاصفر الداخل الى حرماتنا دونما تمييز بين طائفة ومذهب ومنطقة ، فالقِيَم عندما تنهار ، لا تفتشوا بعدها عن الاخلاق ، ولا تسألوا عن اي سقفٍ وطني يحمي وجودنا .
|