قيادات الأقطارمقالات

بَعْدَ نِصْف قَرْنٍ مِنْ تَفْجيرِها . . ثَوْرَةُ “17” تَمُّوز أصبَحَت أمَل المَلايين علي العتيبي

حينما نكتب عن الثورة فإننا نكتب عن تاريخ معاصر انتصر لأمته العربية وتصدى لهمومها، تاريخ حافل بحلاوته وصعوباته، ونكتب للثورة لأنها محل فخر واعتزاز ومنارة في قلوبنا تنير لنا الدرب ومنها نستلهم الهمم ونفخر بأنها الثورة النزيهة البيضاء التي لم تراق فيها الدماء .

بعد نكسة حزيران المؤلمة عام 1967م بدأ الشارع العربي يغلي غضباً على الأنظمة العربية التي اُعتُبِرت مسؤولة بصورة مباشرة عن الهزيمة المخزية. ولم يكن الشارع العراقي بالمختلف، حيث نشطت الأحزاب السياسية غير الرسمية وصعدت من فعالياتها. وبدأ واضحاً آنذاك أن هناك عدة تيارات كان لها نفوذ في الشارع العراقي. كان أولها والأكثر فاعلية بينها هو حزب البعث العربي الاشتراكي. وكان من بين القوى الموجودة في الساحة حركة القوميين العرب والحزب الشيوعي وغيرهم. وقد تميَّز حزب البعث من بين جميع القوى الوطنية والقومية في العراق بما يملكه من مؤيدين وسمعة بين الجماهير العراقية إضافة إلى تشكيلاتِه وكوادره في القوات المسلحة. كما ميَّزه أيضاً

امتلاكه إلى خبرات ودروس وعِبَر تجربة سابقة في قيادة الدولة أعقاب ثورة “8” شباط الخالدة . كل تلك العوامل لم تكن متوفرة بنفس الثقل لدى القوى
السياسية الفاعلة في العراق حينها.

ومما تجدر الإشارة إليه عند تحليل وضع الحزب في المرحلة التي سبقت ثورة 17 تموز 1968م، هو أن كل تلك المميزات التي ميّزت حزب البعث العربي الاشتراكي وجعلته متفوقاً نضالياً وسياسياً عن الآخرين حينها، كانت قد تبلورت على الرغم من أن الحزب كان قد تعرض لانتكاساتٍ وصعوباتٍ مريرة من خلال الانشقاقات التي حصلت بعد انقلاب حافظ أسد على القيادة القومية، وكذلك حصول ردة تشرين حيث تعرَّض الحزب إلى أقوى الضربات العمودية والملاحقة الشديدة وتم اعتقال المئات من البعثيين. ولكن الحزب خرج من كل تلك المِحَن أصلب وأقوى ونهض من جديد لأنه حزب الجماهير وحزب رسالة بحجم أمته العربية بكاملها.

وقد تجسدت قوة حزب البعث العربي الاشتراكي وصلابته في أنه كان الأكثر تنظيما من بين القوى السياسية الأخرى، ويمتلك قيادة فاعلة تحظى باحترام الشارع العراقي، والبعض منها معروف على الصعيد العربي أيضاً. إضافة إلى نجاحِه في استقطاب قوى وأفراد وطنيين مشهود لهم بالتاريخ الوطني والقومي المشرِّف. وكان من أهم دلالات قوته هي التظاهرة الشعبية الكبيرة التي دعا لها الحزب بعد نكسة حزيران، والتي اخترقت شارع الرشيد الرئيسي وسط العاصمة بغداد من بدايته حتى نهايته. وبدأ واضحا أن الحزب كان يمتلك كل القدرات لكي يمتلك زمام الأمور وينقذ العراق والأمة العربية مما كانت تمر فيه.

فمن حيث المبادئ التي آمن بها وناضل في سبيلها ، كان حزب البعث العربي الاشتراكي المعبِّر الحقيقي عن مطالب الأمة وأولوياتها. ولأنه يناضل لتحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية، فقد كان لابد من تغيير الأوضاع في

عموم الوطن العربي بسبب الفشل في جهود تحرير فلسطين خاصة بعد أن مُنيَت الأمة بنكسة كبيرة في الخامس من حزيران عام 1967 إضافة إلى تردي الأوضاع في العراق بشكل عام حيث بلغت درجة الضعف إلى أن الموساد الصuهيوني وعملاؤه كانوا يعملون بحرية في البلاد. إضافة إلى تردي الوضع
الاقتصادي وسيطرة الشركات العالمية الاحتكارية على موارد العراق النفطية فكانت هي المتحكم في الاقتصاد العراقي ، ومن جهة أخرى استمرار استنزاف الدم العراقي في شمال الوطن من دون وجود أفق سياسي للحل.

كل هذا الواقع والظروف جعلت البعث يخطط للقيام بثورة تتولى تغير الأوضاع بشكل جذري من أجل وضع أهدافه موضع التطبيق في الارتقاء بواقع العراق وخدمة شعبه ووضع إمكاناته في خدمة الأمة العربية وقضاياها المصيرية.

إننا حينما نتحدث عن ثورة 17-30 تموز المجيدة فإننا نستذكر هذه الملحمة الثانية التي قام بها حزبنا المناضل حزب البعث العربي الاشتراكي بعد عروس الثورات في 8 شباط 1963م والتي خططت لها قيادة البعث، رجال المبادئ ، لجعلها انطلاقة ووسيلة لتحقيق أهداف الأمة العربية التي تضمنتها عقيدته القومية الاشتراكية.

ولأنها صادقة النوايا لتحقيق التحرير السياسي والاقتصادي و الاجتماعي لا للعراق وحسب وإنما للأمة العربية كلها، فقد حوربت الثورة حتى قبل أن تنطلق. ولكن إرادة الرجال الأمناء على المباديء خططت لها على مستوى عالي من المسؤولية التاريخية. ومع استمرار انجازاتها ونجاحاتها، استمرت الحرب عليها وعلى حزب البعث على صعيد المبادئ والمنجزات من كل الأطراف التي لاتريد لأمة العرب أن تنهض وتتوحد. لأن مشروع البعث من خلال ثورة 17 تموز هو مشروع حضاري لأمة بأكملها، يستند الى تحرير الإنسان العربي من كل القيود ومظاهر التخلف، وتحقيق نهضة شاملة على كل الأصعدة.

ولهذا حينما نقرأ ونستطلع ماتم إنجازه في ظل نظام البعث الوطني في العراق نرى أنه يمثل مفخرة لنا جميعاً وللأمة برمّتها. وصار الشباب يتغنون به بعد الاحتلال الامريكي الإيراني الغاشم للعراق، ولديهم أمل وتطلّع أن يعود البعث ليقود الأمة ويفجر طاقاتها كما فجر رجال البعث ثورة تموز الذين زادهم الله ثباتا على الحق وعلى خطى الرسالة الخالدة للأمة العربية.

لقد شكّلَ قيام الثورة رداً حاسماً على نكسة حزيران لأن البعث وضع القضية الفلسطينية نصب عينيه لهذا كانت قرارات الثورة وانجازاتها منذ بداية تفجيرها موجهة لدعم هذه القضية المركزية . فوجّهت الثورة كل جهدها السياسي والدبلوماسي والعسكري والمالي لدعمها إضافة إلى فتح معسكرات للتطوع وتدريب الفدائيين وتوجيههم وجهة تحرير فلسطين. ولأن عصابات الموساد الصuهيوني كانت تمارس دورها دون حسيب أو رقيب في العراق فكانت الضربة القاضية لها عام 1969م بتصفيتها من خلال القبض على جميع هذه الشبكات وتطبيق القانون بحق أفرادها ليكونوا عبرة لمن تسول له نفسه التجسس لصالح الكيان الصuهيوني أو غيره.

وقد أمنت الثورة بضرورة إشراك القوى الوطنية في مسيرة العراق الجديدة، لذا فقد كان لابد من حل القضية الكردية حلا سياسياً سلمياً فصدر بيان 11 اذار عام 1970م لضمان حقوق الأكراد وإيقاف نزيف الدم العراقي .

ولأن رفاه المواطن المستند إلى الاقتصاد القوي هو عصب الحياة لأي استقلال سياسي حقيقي وراسخ، لذا قامت الثورة بالسيطرة على من يتاجر بقوت الشعب ويحتكره من أجل تجويع العراقيين، ثم جاء القرار الشجاع بتأميم النفط الذي كان ضربة قاضية للشركات الاحتكارية التي تتحكم بمورد العراق الرئيسي وبالتالي بميزانية العراق بهدف تركيعه.

إن كل تلك التحولات الضخمة وغيرها الكثير مما لا مجال لحصره هنا كان تعبير عملي عن مبادئ وعقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي على

الصعيدين الوطني والقومي والتي كانت أهم أسباب تفجير الثورة بهدف خدمة الأمة والشعب. فخلال فترة حكم النظام الوطني الذي أرسته ثورة 17 تموز المجيدة في العراق تحققت الإنجازات الكبيرة والطفرات النوعية على المستوى الخدمي والإنتاجي الصناعي والزراعي والصحي والتعليمي والمعيشي وخاصة بعد تأميم النفط الذي أثر إيجابياً حتى في المواقف السيادية للدولة على الصعيدين العربي والدولي، فجسَّد حريتها واستقلالها الحقيقي، حتى صار المواطن العراقي في كل ربوع الوطن الآن، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على انطلاقها، يستذكرها ويتغنى بها ويشيد بإنجازاتها التي أصبحت راية هادية يتطلع اليها وأمل يعيش من أجله للقضاء على ما يعانيه من ظلم وهوان وتبعية للأجنبي وفساد وتخلف مريع.

اليوم علينا أن نستنهض الهمم ونشحذ الضمائر لتتكاتف الجهود الوطنية المخلصة وتتوحد ولتقف نفس موقف البطولة الذي وقفه الثوار عشية 17 تموز 1968م من أجل رفع راية تحرير العراق والأمة العربية يتقدمه شباب العراق الواعد وأمله الكبير لأنهم أمل البعث و الأمة في تحقيق أهدافها.

في ذكرى ثورة 17 تموز المجيدة نستذكر بالإجلال والتقدير جميع أبطالها الذين حققوا معجزة الثورة والإنجازات البطولية التي أرعبت أعداء الأمة.

الرحمة والخلود لرجال البعث ثوار تموز الذين انتقلوا إلى رحمة الله تعالى..
والتحية لثوار تموز المرابطين الثابتين على نهج ومبادئ الثورة العظيمة..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى