في ذكرى (حياة) القائد المؤسس -خالد ضياء الدين
في ذكرى (حياة) القائد المؤسس
✍🏽خالد ضياء الدين
المفكر العظيم لا تصنعه الحياة إنما هو الذي يصنع الحياة ويهندس طرقها وميشيل عفلق احد هؤلاء العظماء.
كان عفلق مفكرا من طراز فريد، عبقريا ومبدعا..سياسيا أديبا وباحثا، وفوق كل ذلك كان صانعا للفكر ومؤدلجا للحياة.
لم يكن منتوج فكره وليد الصوالين والمشافهات الخاصة، فهو لم يهتم مثل أقرانه في ذلك الزمان بالجلوس مع المثقفين يدخن التبغ الأخيرة،يفرك أصابعه ويغيب نفسه متأملا في بقايا النبيز القابع في آخر الزجاجة معلنا انتهاء الجلسة.
كان منذ نعومة أظفاره مختلفا، ففي بدايات العشرين من عمره كان يحمل على ظهره هموم الفقراء والمساكين،مولعا حد الهيام بأمته العربية من المحيط إلى الخليج، منشغلا بكل تفاصيلها، ولم يكن يطالب الآخرين إلا بما يستطيع هو القيام به..لم ينظر لغيره كما جرت العادة عند بعض قادة الفكر، فعندما تحدث عن الفقراء كان جزء منهم، يعيش معهم وبينهم، وعندما نادى بمقارعة الاستعمار في الوطن العربي حمل بندقيته مقاتلا مع الشعب العراقي ضد الاستعمار..وفيا للقضية الفلسطينية لدرجة أن مزج حديثه بفعله فذهب متطوعا في صفوف المقاومة الفلسطينية في أربعينيات القرن الماضي.
عفلق الذي ألزم نفسه أولا بالفكرة القومية، ونظر لها وحولها من مجرد أماني يغلب عليها الطابع العاطفي إلى واقع نظري منظم ومنتظم حدد من خلاله أزمة الأمة ووضع الحلول العملية لتجاوزها.
وهو الذي جمع القوميين العرب في حديقة واحدة هندس وأسس لها نظريتها الفكرية وجعلها أكثر جدية وحداثة من خلال ربطه للنظرية القومية ببعدها التنظيمي فكان حزب الطليعة العربية صاحب النظرية القومية.
لقد جسد ميشيل عفلق “البيان بالعمل” فكان بعثيا خالصا ومناضلا مقاوما..أديبا اريبا استطاع أن يقدم النظرية القومية في ثوب قشيب مازجا خيوط الصباح بمصابيح المساء فأنار عتمة الأمة من بعد طول ظلام وإظلام.
باحثا في التأريخ وباعثا لقيمه الأصيلة، متأملا وقارئا منفتحا على ما حوله، لم تمنعه المؤامرات ودسائس المخابرات والحكم بالإعدام وتصفية أقرب الرفاق إليه من أن يمضي قدما متحديا الموت فهو الذي يؤمن بأن الحياة فكرة، وقد قام ببذرها في حقول ملايين العرب فتحولت تربتها القاحلة إلى غابات مثمرة وجداول جارية وغصون تمد أجنحتها تقالد صباحات الثوار وتلهم الأحرار السير في خط الجماهير.
ينزل الله على بعض خلقه من الإلهام والقدرة على الإبداع مايجعلهم مختلفين، مميزين، إنهم آية من آياته في الأرض لأنهم مختلفون، وعفلق واحدة من آيات الله في خلقه مثله مثل المتنبئ وإدريس جماع واينشتاين وموزارت وبتهوفن وذاك الطفل الذي حفظ القرآن في عمر الثلاثة أعوام..كلهم نوابغ وكلهم مبدعون وإن اختلفت توجهاتهم إلا أن القاسم المشترك الأعظم بينهم هو النبوغ المبكر والقدرة على استنطاق مايجيش بخاطرهم وتحويله من مجرد فكرة إلى حالة إبداعية ملفتة للنظر ومثيرة للدهشة.
تلك العبقرية تجسدت في عفلق ولو دقق الباحث في كتاباته وأقواله لاصابته الدهشة اذا علم بأن تلك الأفكار عميقة الاثر انما خرجت من شاب صغير في بداية العشرينيات من عمره.
عفلق لأنه إنسان واقعي ومنطقي لم يهتم بكتابة أفكاره ليضعها في أدراج المكتبات تستدعي في الندوات كمراجع فكرية..لانها لم تكن ترفا،فواقعيته وصدقه وسلاسة أفكاره جعلته ينظر ويعمل بذاته من أجل أن تتنزل فكرته واقعا معاشا فكان من المفكرين المؤسسين القلائل إن لم نقل أنه الوحيد صاحب النظرية السياسية الذي (عاش) تطبيقها في أرض الواقع في اكثر من قطر، وهو الذي أسس نظرية تنظيمة تحولت لواقع معاش في كل أقطار الأمة العربية، ظل يرعاها مذ كانت فكرة حتى تجسدت أمامه وهو ينظر إليها مثلما ينظر الأب لأطفاله صباح العيد بملابسهم الزاهية ولعبهم الجميلة وهم في منتهى السعادة بما أتاهم الله من نعمة..ياله من مفكر مبدع.
عندما وجد القائد المؤسس أمامه الأمة العربية في حالة تجزئة بفعل الاستعمار وأذرعه في الداخل وضع (الوحدة) رافعة للنهوض العربي الإنساني المتحرر..وعندما تفتق وعيه وجد الاستعمار الإنجليزي والفرنسي وال ص_ ي وني وغيره يتحكم في موارد الأمة وينقل خيرها لصالح شعوبه، عمل من أجل (الحرية)والانعتاق من قيد الاستعمار، ..وعندما حلل واقع الأمة اكتشف أن الحل لوقف استغلال الفقراء واستعبادهم يتم من خلال قطع حبل الوصل مابين طبقات الرأسمالية المحلية المرتبطة بالاستعمار، فأعلن الانحياز لأغلبية الفقراء ليس لمجرد المساواة إنما لاستخراج الممكنات الإبداعية فيهم وذلك بتحويلهم من مجرد أدوات إنتاج مثلهم مثل ماكينات المصانع إلى أصحاب حق في الحياة الحرة الكريمة لهم حق في الثروة التي ينتجونها وليس لأحد الحق في استغلالهم..لقد تبنى عفلق(الاشتراكية) بمفهومها الإنساني القومي المرتبط بقاعدة إيمانية تستوعب علاقة أهداف الأمة العربية بالإسلام وهديه الذي ينادي بالمساواة وعدم استغلال الإنسان لأخيه.
غاب الأستاذ القائد المؤسس جسدا لكن تظل الفكرة متقدة يزيدها النضال الثوري ألقا ويبعثها بشكل متجدد جيل بعد جيل، يتممها ويرويها من نبع لاينضب فتظل أزهارها متفتحة يرعاها البعثيون وشرفاءالأمة يذودون عنها بصدورهم المؤمنة ويدافعون عنها دفاعهم عن أغلى مايملكون.
بعد احتلال العراق جرف أعداء الأمة قبر القائد المؤسس وهم يظنون (وبعض الظن إثم ) أنهم بتسويتهم لقبره بالأرض سيقتلون الفكرة، ولكن في كل يوم جديد تشرق شمسه كان يولد عفلق جديد، ينتسب لحزب الأمة العربية، بهم يظل عفلق موجودا وملهما..هو الرصاصة التي تخترق صدر الاستعمار، في الزحف المقدس نحو تحرير فل-سط-ن الحرة من البحر إلى النهر..وهو ألق الارتقاء تجسد في شهيد الأمة وعنوان صمودها،القائد البطل صدام حسين يوم قدم نفسه كأبهى مايكون المناضل الثائر المؤمن، فداء للمبادئ والفكر الأصيل .
عفلق الآن بفكرته أراه شامخا مثل نخلة باسقة تطرح ثمارها في أرض الشام أو تبلدية في كردفان.. إنّي ألمحه في كل كوفية فلسطينية تغطي وجه مقاوم، وفي يقظة موريتانية خضبت أصابع يدها أحبار ماكينة “رونيو” عتيقة لتصدر بيان باسم حزب البعث العظيم.
لكانْي أسمع أنفاسه وهمس حديثه مابين سطور “نقطة البداية” و”في سبيل البعث” وفي كلمته “في ذكرى الرسول العربي” وينقطع نفسي وتتعثر الكلمات على لساني عندما أعيد قراءة {عهد البطولة}.
عفلق الذي نعرفه لم يمت فالفكرة لاتموت.
عفلق حي في هتافات الشوارع في لبنان، وفي العراق خنجرا في خاصرة الأمريكان واعداء الامة..عفلق الليبي نفسه في اريتريا ينظر للمستقبل متفائلا ومتفاعلا، موجود هناك في جبال دارفور مناضلا يتفقد أهله في معارك الفاشر، وفي مصر وسط الملايين يلهج بالدعاء لأهل غزة وينتظر لحظة الانفجار الكبرى ليلتحم مع الشعب العربي في ملحمة الخلاص والتحرير ليحقق الوحدة والحرية والاشتراكية في معركة المصير الواحد.
في ذكرى (حياة) عفلق نردد معه وهو الحي بيننا (محال أن تموت وانت حي
كيف يموت ميلاد وجيل
فبعث الموت أمر مستطاع
وموت البعث شيء مستحيل