مقالات

(١٩٤٧-٢٠٢٤ ) : ٧٧ ربيعا بعثيا البعث قدر الأمة العربية في وجودها ورسالتها الى الإنسانية د. محمد مراد

(١٩٤٧-٢٠٢٤ ) : ٧٧ ربيعا بعثيا
البعث قدر الأمة العربية في وجودها ورسالتها الى الإنسانية
د. محمد مراد
تنفرد الأمـّة العربية دون سائر أمم العالم بخصوصية وجودية تستعصي على مقاربتها بالمنهج التقليدي او عبر مصطلح معرفي جاهز. فهي ليست اقتباسا او نسخا لنموذج الظاهرة القومية التي ظهرت في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر تماشيا مع قيام الدولة المركزية ( الدولة-الأمة)، وضبط اقتصاد السوق الرأسمالي الداخلي والحدّ من النفوذ المتفلت للكهنوت الكنسي، بالمقابل، الانفتاح على ليبرالية في علاقات المواطن مع الهيئة الحاكمة على قاعدة عقد اجتماعي يوازن بين الحقوق والواجبات. لكن عصر القومية المستجد في الغرب لم يلبث أن راح يتطور بصورة جامحة نحو الدولة الكولونيالية المدفوعة بنزعات الاستعمار والتسلط على الشعوب، وبتصاعد الشوفينية المنادية بالتفوق العرقي والقومي وثقافة الإخضاع والاستبداد والنهب الاستعماري للشعوب الخاضعة لسيطرتها..
أما الأمّة العربية فقد كان لها مسار آخر مختلف عن الظاهرات القومية سواء في اوروبا أو غيرها من العالم ، فقد اختصت الأمة العربية بماهية تكوينية وبمسار تاريخي تطوري لم تعرفهما الامم الأخرى، فهي أمة انفردت بخصوصيات جيوسياسية جغرافية وتاريخية ورسالات سماوية تواصلت فصولها عبر التاريخ، من حيث الموقع شكلت الجغرافية العربية مركز التوازن البري والبحري بين العالم ، ومن حيث المخزون الروحي كانت مهد الرسالات النبوية التي توجت بالاسلام الذي بشّر به النبي العربي محمد بن عبد الله وحمله العرب لمدّ الانسانية بقيمه في السلام والعدالة والحرية، ومن حيث الانتاج الحضاري كانت شعوب المجال العربي قد زوّدت البشرية بالنظم الاجتماعية والعلوم والكتابات السومرية والهيروغليفية المصرية والأبجدية الفينيقية وكمّ كبير من النظم والفنون والشرائع والعلوم على اختلافها.
هذه الخصوصية الجيوسياسية والروحية الايمانية والابداعات الحضارية لم تكن مجرد صدفة او حالة عرضية حينية محدودة في مكانها وزمانها، وإنما هي على علاقة سببية بجوهر الأمة العربية، هو هذا الجوهر الذي سعى البعث العربي الى اكتشاف ماهيته وقوانينه الفاعلة.
من هنا، كان البعث العربي قد سجّل سبقا فكريا تجاوز سائر النظريات الفكرية والسياسية بشأن نظريته في الأمة والقومية العربية، فقد اكتشف البعث أن أمة العرب ليست جغرافية او تاريخية او دينية،فهي ليست محددة ببداية زمنية أو مراحلية، وانما هي جوهر أزلي مكتمل الماهية والخصوصية، هذه السرمدية الأبدية تبقى غير محكومة للتغير والتبدل من حيث كونها جوهر من ناحية، ومن حيث تجاوزها للحدود الزمنية بداية ونهاية من ناحية أخرى.
ربط البعث العربي بعلاقة حميمية تفاعلية بين الصيرورة التاريخية للأمة والجوهر الكامن في ماهيتها، واكتشف القانون الحاكم لهذه العلاقة العلاقة على انه ” قانون وعي الأمة لذاتها” وهذا هو ” البعث” هو تراكم تاريخي في وعي الامة وصولا الى تحقيق رسالتها الخالدة في أنسنة العالم على مبادىء الحق والعدل والقيم السامية.
من هنا بات البعث العربي هو الحامل لأسرار الأمة العربية في وجودها وحراكها التاريخي وشروط نهضتها وتحقيق رسالتها الخالدة.
في السابع من نيسان ١٩٤٧ أطلق البعث العربي الاشتراكي منطلقاته النظرية التي سجّلت سبقا فكريا تخطى سائر النظريات الفكرية والسياسية من حيث تكامل البنيان العقيدي بمرتكزاته الحاملة الثلاثة الوحدة والحرية والاشتراكية. لقد منح البعث اولية معنوية لتقديمه الوحدة العربية حيث رأى فيها مفتاح التغيير الحقيقي في الأمة وفي بناء محتمعها القومي التحرري الاشتراكي. فقد اكد مفكر البعث الاستاذ ميشال عفلق ان ” الحرية التي يسعى اليها كل قطر عربي على حدة لا يمكن ان تبلغ من العمق والشمول والمعنى الايجابي ما تبلغه الحرية التي تحققها الأمة العربية في وحدتها… كما أن الاشتراكية تتقلص وتتشوّه في حدود القطر العربي، في حين أنها تأخذ كل مداها النظري والتطبيقي عندما يكون مجالها الوطن العربي كوحدة اقتصادية “. كما أدرك البعث من خلال تجربته النضالية ان التحرر من الاستعمار الذي جثم طويلا على صدر غير قطر عربي لن يحقق النتائج المنشودة الا في اطار وحدة المجابهة القومية الشاملة، وأن الوحدة القومية لن تتحقق “الا اذا كانت جماهير منظمة ومسلحة تدافع عن الوحدة بالسلاح… الا اذا كانت وحدة حرب تحرير، فتوحد وتحرر ارضنا المغتصبة، اذ أن الاستعمار والصهيونية لن يتركانا يوما واحدا متوحدين، فالوحدة لن تكون الا وحدة مسلحة، وحدة مهاجمة، وحدة من اجل الدخول في المعركة.. إن طريق الوحدة يمر بفلسطين” .
اما التلازم العضوي مع الاشتراكية فقد تاكّد من خلال انتزاع البعث شعار الوحدة من الفئات الاقطاعية والبورجوازية التقليدية وإعطاء قضية الوحدة مضمونا اشتراكيا لم تطرحه الأحزاب العربية المعاصرة ضمن مؤسساتها وبرامجها. جاء في قول القائد المؤسس ” نريد الاشتراكية ان تخدم قضيتنا القومية فعليها أن تزيدنا جراة في الإقدام على حرية التفكير وعلى المناداة بحرية القرار والدعوة الى خصب الروح وغناها”. إن ” تحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط اساسي لبقاء امتنا ولإمكان تقدمها”.ويخلص الى القول”بناء على نظريتنا الموحدة للقضية العربية لا نعتقد أن بالإمكان الفصل بين الوحدة العربية والاشتراكية”.
تميّز حزب البعث- حزب الأمة العربية باعتماده منهجية نضالية تقوم على التشبيك والتكامل بين ثلاثة مناهج حاملة لنظريته القومية: الأول، تاريخي عمودي راح يحفر في عمق المراحل التكوينية للأمة العربية، الثاني، استقرائي- استنتاجي للتجارب السابقة، وتعيين عوامل الاندفاع والتراجع في حراكها الزمني، والثالث، استشرافي – آفاقي لمستقبلها من خلال الالتزام النضالي بقضية “بعث الأمة” من خلال تأمين مقومات نهضتها وتقدمها المستدام ارتكازا الى تحقيق وحدتها القومية وتحررها من الداخل والخارج، وبناء مجتمعها الوحدوي التحرري الاشتراكي.
كانت الترجمة النضالية لعقيدة الحزب في تحوله الى طليعة النضال القومي في التاريخ العربي المعاصر، وقد لاقت تجربته ثمارها في قيام اول وحدة عربية بين القطرين المصري والسوري(١٩٥٨-١٩٦١)، ودعمه لسائر حركات التحرر الوطني في غير قطر عربي، وصولا الى بناء تجربته الرائدة وطنيا وقوميا في العراق ف ظل ثورة ١٧-٣٠ تموز المجيدة، وهي التجربة التي أشعلت قوى الغرب الاستعماري والصهاينة وكل القوى الحاقدة على العروبة عداء وكراهية وانتقاما.
كثّفت القوى المتآمرة حروبها العدوانية على تجربة الحزب في العراق، فشنّت عليه سلسلة من الحروب المتواصلة عسكريا واقتصاديا بين ١٩٨٠-٢٠٠٣، وصولا الى الاحتلال الأنكلو-اميركي المباشر في ٩ نيسان ٢٠٠٣، ليفتح هذا الاحتلال المنطقة العربية برمتها أمام ازمات وحروب تفكيكية داخلية ما زالت مستعرة حتى اليوم، كل ذلك بهدف اصطناع شرق أوسط جديد تتوزعه سلسلة من الفدراليات اوالكونفدراليات الطائفية والمذهبية والاثنية والجهوية الانفصالية،الامر الذي يشكل بديلا للوحدة القومية العربية التي نادى بها البعث كمشروع خلاص تحرري يفتح الطريق امام النهضة العربية الواعدة.
إن الحرب العدوانية الصهيونية الأطلسية على غزة اليوم، والتي ستبدأ الشهر السابع على اندلاعها. وهب الحرب غير المسبوقة في التاريخ المعاصر من حيث فظاعتها واعتمادها أسلوب الابادة الجماعية لأكثر من مليوني فلسطيني سقط منهم حتى الآن اكثر من ١١٠ آلاف بين قتيل وجريح معظمهم من الاطفال والشيوخ والمدنبين العزّل والعجزة.
في الذكرى السابعة والسبعين لميلاد حزب الأمة العربية- حزب البعث العربي الاشتراكي، يتوقف البعثيون امام مراجعة لواقع الامة ولحجم التحديات الكبرى التي تواجهها في وجودها ومصيرها. فقد مرّت الأمة سابقا، بظروف قاسية من الاستهدافات الخارجية، صحيح كانت استهدافات قد نالت من الأمة واضعفت من نشاطها الحضاري ونهضتها، لكنها لم تستطع ان تعلن موتها وإفناءها، فهي أمة ظلت حيّة ولم تمت، وبقيت العروبة هويتها الحافظة، ولم يستطع احد على محوها او اجتثاثها. فالامة العربية تختزن من القوة الداخلية قدرة فائقة على استيعاب التحديات والصدمات والاحتلالات والاختراقات، لا بل قدرة على خلق استجابات وتحويلها الى اندفاعات مدّية ومعاودة الانطلاق من جديد، فهي امة مخصوصة بالصبر والتحمل والصمود وإنتاج القدرات الكفيلة بالمواجهة وتجديد الذات، فهي أمّة الرسالة الخالدة، الرسالة العصية على المحو والاجتثاث والفناء.
تحية الى البعث العظيم في ميلاديته ال ٧٧ ، وتحية الى البعثيين القابضين على المبادىء والثابتين على العروبة في كل ساحات النضال القومي، مع تحية وفاء للقادة الشهداء العظام ميشيل عفلق وصدام حسين وعزة ابراهيم وطارق عزيز وعبد المجيد الرافعي وكل القادة والمناضلين الآخرين..
عاش السابع من نيسان موعدا مع البعث المتجدد الخالد، وعاشت الأمة العربية زاهية ببعثها العظيم ورسالتها الخالدة ابد الدهر.
قف شامخا مثل المآذن طولا
وابعث رصاصك وابلا سجيلا
إن يحرقوا كل النخيل بساحنا
سنطل من فوق النخيل نخيلا
إن يهدموا كل المآذن فوقنا
نحن المآذن فاسمع التهليلا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى