بين تحديث التكنولوجيا وتحجيم القيم الإنسانية الدول الكبرى تتاجر بدماء الشعوب الفقيرة حسن خليل غريب
بين تحديث التكنولوجيا وتحجيم القيم الإنسانية
الدول الكبرى تتاجر بدماء الشعوب الفقيرة
حسن خليل غريب
لا شك بأن التنمية الزراعية والصناعية في هذا العصر عرفت طفرات واسعة ومتقدمة بفعل التكنولوجيا الحديثة، وقدَّمت للبشرية خدمات لم تعهدها حتى الآن، وهي تسير بشكل متصاعد يصل حدود الإعجاز. ولهذا تتسابق الدول المتقدمة، على هذا الصعيد، على توسيع رقعة الأسواق لبيع منتوجاتها. فكانت التجارة هدفاً مشتركاً بين تلك الدول. واستدعت التجارة إبداعاً في فنونها ووسائلها لتسويق السلعة، وتشهد تنافساً حاداً بين الدول الصناعية، الأمر الذي يصح فيه القول إن سمات هذا العصر تتميز بنوع من الحروب التجارية، تُستخدم فيه كل أخاديع السياسة لجذب المستهلكين؛ وكذلك تسابقاً حاداً على الأسواق التجارية.
هذه الحروب التي تعمل الدول المتقدمة على تدعيمها بتخزين كل أنواع الأسلحة المتقدمة والفتاكة لتحمي أساطيل السلع التي تجوب البحار والمحيطات. وفي سبيل توفير الأسواق، تعمل من أجل الحؤول دون دخول دول العالم الثالث ميادين الإنتاج؛ لأنه كلما ازدادت أعداد الدول االمنتجة يكون على حساب تخفيض أسواق الاستهلاك أمام الدول الصناعية الكبرى، وهذا يعني حرمان الدول الكبرى من بيع منتجاتها.
صحيح أن السلعة الغذائية أمر مقدَّس لأنها مصدر لا غنى عنه من أجل استمرار الحياة، وبدونها سيكون الموت بديلاً حتمياً. فتحَّول إنتاج السلعة الغذائية، والتجارة فيها مصدراً ربحياً لكبار الصناعيين والتجار. وكل ذلك سيكون على حساب الفقراء ولقمة عيشهم.
وصحيح أيضاً أن الثروات الطبيعية لا تنضب، ولن تنضب، ما دامت عوامل الإنبات الزراعية، وعوامل التكاثر الحيواني، تجدد الثروات، وتزيد من حجمها كلما أحسن البشر وسائل إنتاجها وقاموا بتطويرها. وهنا، ليس الخلل بحجم ثروات الطبيعة وكمياتها، بل الخلل هو بسوء وسائل إنتاجها، ولاعدالة توزيعها بين البشر. فثروات الأرض، باطنها وسطحها وسماؤها، كانت منذ بدء الخليقة تكفي الآلاف، وهي ما زالت تكفي المليارات، وليس لعطائها حدود ولا سقوف.
وإذا كانت ثروات الكرة الأرضية، لها كل تلك المزايا والأهمية، ولم تُخلق لتكون مصدراً للصراعات بين البشر، لأنها متوفرة لتقيت كل من سكن هذه الكرة، بل لتكون منبعاً للتعاون بين سكانها في استخراجها وتوفير حصة منها لكل إنسان.
وإذا كانت تلك الثروات كافية لإعالة من يعيش على الكرة الأرضية، من قوة فعل إنباتها، وقوة فعل تكاثر حيوانها، وكثافة إنتاج مصانعها، نتساءل: لماذا يتصارع البشر، أفراداً وجماعات ودولاً، على تلك الثروات؟
إذا كانت الثروات المادية تخضع لمبدأ العمل، جهداً وإنتاجاً، باليد الكادحة أم بالآلة، وبهذا يصبح العمل من واجب كل إنسان وحقه فيه، فإن عدالة التوزيع تخضع لمبدأ العقل، بما يمتلك من قدرات تنظيمية غير مرئية. وتلك القدرات موجودة بالقوة في القيم الروحية والأخلاقية التي يستطيع العقل وحده أن يدركها، ويأمر بتطبيقها.
ولهذا فإن العدالة والمساواة هي من أهم تلك القيم المعقولة والمحسوسة في آن معاً. ودليل أنها محسوسة يتمثل في أن التاريخ يذكر وجود حكام عدول بالفعل. وهؤلاء الحكام يبشرون بالمساواة ويعملون على تطبيقها.
فالعدالة بهذا المعنى ليست قيمة رومانسية، بل قيمة محسوسة يستطيع البشر أن يطبقوها في حياتهم الأسرية الضيقة، وكذلك في مجتمعهم القومي، وفي المجتمع الأوسع على مستوى مفاهيم الدولة، وصولاً إلى العالم الأوسع في العلاقات بين الدول.
لقد قفز الإنسان في عصرنا الراهن على مستوى وسائل الإنتاج خطوات واسعة لا يكاد عقل الفرد أن يدركه. كما قفزت وسائل التوزيع خطوات كبيرة، عبر البر والبحر والجو. ولكن تلك القفزات كانت خالية من القيم السامية، وخاصة من قيم العدالة والمساواة. وراح أصحاب المصالح، اتكاء على أنظمة سياسية واقتصادية مصنوعة من عجينها، وعلى مقاييس مصالحها، تكدس الثروات في جيوبها حتى التخمة، وما هو بعد بعد التخمة، بينما يعمُّ الجوع والمرض معظم سكان الكرة الأرضية.
وأما السبب في ذلك فعائد إلى تخمة في إنتاج تكنولوجيا الإنتاج المادية، وفقر مدقع بالاهتمام بالقيم الإنسانية. حتى كادت القيم العليا تصاب بنقص في المناعة، وفقر شديد بالضمير.
إن كل ذلك لم يستفز الجمعيات والهيئات الدولية، وأصبحت المعاهدات التي تحض على مساواة البشر في توزيع الغذاء، حبراً على ورق؛ ونهباً لشراء الذمم من قبل الدول الرأسمالية الكبرى. كما لم يستفز الواقع المرير المؤسسات الدينية، بحيث انساقت كل منها، إلى الانخراط في لعبة الربحية المادية على حساب المبادئ الروحية العميقة والسامية، إما ممالأة للموسرين والأغنياء، وإما كسباً لرضى السلطات الحاكمة. وإما طمعاً بتكديس الثروات الخاصة والعامة على حساب عرق الفقراء وكدحهم.
في عصرنا هذا، انعدم وجود أنظمة تمتلك الرؤية الأيديولوجية ذات الأبعاد الإنسانية، ومن امتلكها من الدول الراهنة، حتى ولو بشكل نسبي، كالدول الرأسمالية الغربية، فإنما توزِّع الجزء القليل من ثرواتها لمصلحة شعوبها ومجتمعاتها، والجزء الأكبر لمصلحة نخبها الاقتصادية والسياسية؛ وهي في المقابل لا تجيز الاستفادة منها لغيرها من الشعوب فحسب، وإنما تحثُّ على احتكار ثروات الشعوب الأخرى ومصادرتها ونهبها أيضاً. ولذلك تتنافس الدول الكبرى اليوم على سرقة تلك الثروات بشتى الطرق والوسائل، وترتكب أفظع حروب التجارة وأقذرها تحت حماية الأساطيل البرية والبحرية والجوية. وبذلك سادت حروب التنافس بين الدول الكبرى والتسابق على انتزاع المناطق في العالم على قاعدة تعميم مناهج الاستهلاك، وإلغاء حق الآخرين في تنمية مناهج الإنتاج.
إن من يشاهد منظر الحركة الدولية، في شتى أنحاء العالم، وعلى الأخص تجاه الوطن العربي، يرى حقيقة الواقع القائم بالتسابق على اقتسام ثروات هذا الوطن بقوة السلاح والسياسة والتجارة. ولذلك يمثل وطننا العربي نقطة التلاقي بين المتصارعين، الذين ما إن يحصلوا على حصة لكل منهم في ثرواته، عبر الإلحاق السياسي والأمني والعسكري، كأذرعة لحماية الممرات التجارية، وحماية حصصهم في الثروات الطبيعية، حتى يطمئنوا إل وجود ممرات آمنة تجاه الأسواق الأخرى. ولهذا نجد الأساطيل العسكرية، براً وجواً، تملأ سماء الوطن ومياهه وأرضه، من شتى الأشكال والجنسيات، التي وإن اختلفت في أشكالها وجنسياتها فإنها تتفق على هدف واحد، هو سرقة الثروات في باطن الأرض العربية، وسرقة ما تدخره الأنظمة ضماناً لنخبها السياسية والاقتصادية، وسرقة ما في باطن جيوب الفرد العربي مما يجب أن يدخره ضماناً استراتيجياً لمستقبل الأجيال العربية قبل أن تنفذ ثرواته في باطن الأرض، وهي مقبلة على النفاذ.
لقد أغرقوا الإنسان العربي بموجات السلع وأحدث أنواع التكنولوجيا المخصصة لرفاهية حيتان السلطة والمال، لأنها متوفرة لمن يدفع الثمن. وأغرقوا الفقراء بكميات كبيرة من السلع الغذائية، ولكن الفقير عاجز عن شراء ما يملأ معدته منها. فراحت النخب تموت من كثرة الشبع، وراح الفقراء يموتون من شدة الجوع.
لماذا كل هذا الإفقار؟
ولماذا كل هذا الجشع؟
ولماذا كل ذلك يحصل، والله خلق للإنسان مصادر رزقه بشكل كافٍ؟
إنه اللاتوازن الحاد بين جشع الرأسماليين، ومن يمثلونهم على كراسي حكم الشعوب من جهة، وفي الجهة المقابلة تحجيم للقيم الإنسانية السامية والتي تقع مبادئ العدالة والمساواة في الأولوية منها.