طوفان الأقصى وتوازن القوى د. علي بيان
طوفان الأقصى وتوازن القوى
د. علي بيان
مقدمة: شكلت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول، 2023 نقلةً نوعية في أنماط الصراع بين الشعب العربي الفلسطيني والإحتلال الصهيوني، حيث تمكنت المقاومة من اختراق خطوط العدو الدفاعية والأمنية والإستخباراتية، وقتل وأسر عدداً كبيراً من قوات العدو والمستوطنين، وتمكنت من مقاومة قوات العدو المتوغلة في غزة لعدة أشهر وإيقاع خسائر عالية في قوات العدو ومعداته العسكرية، حيث أعلن جيش العدو في 17 شباط الحالي مقتل 573 ضابطاً وجندياً، وإصابة 2918 آخرين، دون الإفصاح عن خسائره في المعدات. من جهة أخرى تجاوز رد فعل العدو الحدود التي كانت تستعمل سواء في مواجهة عمليات المقاومة في الداخل الفلسطيني والطوق العربي أو الحروب النظامية بين الدول العربية والكيان الصهيوني لجهة المجازر التي ترتكب في غزة، دون إغفال المجازر التي ارتكِبت منذ إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين (دير ياسين ، نيسان 1948، الطنطورة، أيار 1948،كفر قاسم، 1956 في فلسطين، مدرسة بحر البقر في مصر (نيسان، 1970)، مخيمات صبرا وشاتيلا (أيلول، 1982)، قانا (نيسان 1996 و حزيران 2006) في لبنان. في غزة لم تقتصر الإستهدافات على مراكز محتملة لتواجد عناصر المقاومة ولا حتى منشآت سكنية بل المستشفيات ودور العبادة ومخيمات النازحين والمدارس والبنية التحتية المتعلقة بحياة الناس كمحطات الكهرباء والمياه والإتصالات ومخازن الأدوية والأغذية والإتصالات، والمدنيين أثناء انتقالهم من منطقة إلى أخرى عبر طرق محددة مسبقاً بأنها أمنة، وأثناء تواجدهم في المنازل أو المخيمات التي أُنشئت بعد الهجوم على غزة حتى تلك التي تشرف عليها منظمات الأمم المتحدة، وبلغ عدد الشهداء 28985، والجرحى 68883 منذ بداية العدوان وحتى 18 شباط الحالي.
مقاربة موازين القوى: أظهرت المواجهات خللاً في توازن القوى والرعب والتي يمكن إيجازها بالتالي:
1ـ الفرق النوعي بين القدرات العسكرية والمراقبة والتحكم والإسناد الخلفي بين قوات العدو والمقاومة، ورغم ذلك تمكنت المقاومة من إيقاع خسائر كبيرة بقوات العدو على صعيد الإصابات بين الضباط والجنود والآليات، وأحدثت إرباكاً داخل الكيان الصهيوني نتيجة الرشقات الصاروخية التي طالت إضافةً إلى مستوطنات غلاف غزة والمدن الساحلية القريبة وصولاً إلى تل أبيب بما في ذلك مطار اللد وإخراجه عن الخدمة عدة مرات، وحدوث هجرة معاكسة من الكيان الصهيوني إلى خارجه، وإجبار العدو الصهيوني على إجلاء المستوطنين في غلاف غزة وشمال فلسطين المحتلة القريبة من الحدود مع لبنان.
2ـ خلل في الدعم الخارجي العربي والدولي: رغم حدوث مواجهات عن بعد بين قوات العدو وقوات حزب الله وغيرها على الحدود الجنوبية ومناوشات بين ميليشيات تابعة لإيران في سوريا والعراق والقوات الأميركية المتواجدة في البلدين، واستهداف الحوثيين في اليمن لسفن يقولون أنها مملوكة للكيان الصهيوني أو تنقل بضائع إليه فإن ذلك لم يغير في طبيعة ودرجة العدوان في غزة، وبقيت تحت سقف التفاهمات التي تدير الكباش بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، وهذا ما ظهر جلياً في تصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين الأميركيين، وما ورد في المؤتمر الصحفي لوزير الخارجية الإيراني في بيروت في العاشر من الشهر الحالي، وتصريحات مسؤولين إيرانيين آخرين التي تؤكد على عدم توسيع دائرة الصراع، ووجود قنوات إتصال دائمة بين أميركا وإيران.
3ـ تحرك داعمو الكيان الصهيوني وفي المقدمة منهم ألولايات المتحدة الأميركية بإرسال المدمرات وحاملات الطائرات وطائرات التجسس إلى البحر الأبيض المتوسط وفوق غزة، وتم إمداد الكيان الصهيوني بكل ما يحتاجه من أسلحة و ذخائر ودعم مالي، واستجابة سريعة من قبل حوالي 18 دولة في مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية بوقف مساهماتها في تمويل وكالة إغاثة وتشغيل الللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” بعد مزاعم العدو بأن 12 من موظفيها شاركوا في عملية “طوفان الأقصى”، وقبل أن تُجرى أي تحقيقات من الوكالة نفسها أو جهات مستقلة أخرى، واستخدمت أميركا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع صدور قرار بوقف الحرب. بالمقابل لم تتمكن الدول العربية من إدخال حتى مساعدات إنسانية (غذاية وأدوية ومعدات طبية وغيرها) إلى القطاع، مما يشير إلى سيطرة العدو عملياً على كل المعابر مع قطاع غزة بما في ذلك معبر رفح الذي يجب أن يكون تحت السيطرة المصرية والفلسطينية. ورغم أن ميزانية الأونروا التي لا تتجاوز 1.6 مليار دولار، والقدرات المالية الهائلة للدول العربية لم تستطع تعويض المبالغ التي كانت تساهم بها الدول التي علقت تمويلها.
4ـ اتخذت الدول الداعمة للكيان الصهيوني قرارات وإجراءات تنفيذية عاجلة وفعالة دعماً للكيان الصهيوني، في المقابل بقيت قرارات مؤتمر القمة العربي الإسلامي في العاصمة السعودية ،الرياض في ت2 2023 والذي شاركت فيه 57 دولة حبراً على ورق ودون أي تأثير فعال أو دعم إجرائي ملموس للفلسطينيين في غزة باستثناء بعض الطائرات محدودة العدد التي أُرسلت إلى القطاع وهي محملة بالمساعدات.
5ـ عندما يحدث إي خلل بسيط في العلاقات بين الدول العربية، وإن بصدور تصريحات يُلاحظ أنها تُقدم على قطع العلاقات الدبلوماسية، ويستمر الوضع لسنوات إن لم يكن لعقود، في حين أنه رغم ما يتعرض له الشعب العربي الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس من انتهاكات وتهديد وجودي لم تقدم الدول العربية التي أقامت علاقات مع الكيان الصهيوني على ذلك، علماً أن المطلوب ليس فقط قطع العلاقات وإنما المشاركة في القتال استناداً إلى مندرجات مجلس الدفاع العربي المشترك باعتبار أن هناك اعتداءاً على إحدى الدول في الجامعة العربية. هكذا إجراء اتُخذ ونُفذ في الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها خاصةً في حلف الناتو على العراق وليبيا، وكانت الجامعة العربية آنذاك في حالة استنفار ونشاط مستمرين ليلاً نهاراً، ما يشير بوضوح إلى درجة هيمنة الولايات المتحدة على سياسات معظم الأنظمة العربية التي تستطيع أن تقدم الكثير للقضية الفلسطينية حتى وإن لم تنخرط مباشرةً في المواجهة العسكرية.
6ـ رغم أن الدعوات إلى تفعيل المقاطعة للكيان الصهيوني قد أعطت بعض التأثير على الشركات المرتبطة به، إلا أن ذلك لم يصل إلى درجة التطبيق المؤسساتي بحيث لم يتم وقف التعامل مع تلك الشركات عبر وقف إجازات الإستيراد منها بقرارات مركزية من وزارات الإقتصاد والتجارة في الدول العربية وليس فقط امتناع المواطنين عن شراء منتجاتها، والحصول على ماتحتاجه من دول صديقة للعرب ومدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني، أو حتى حيادية وهي كثيرة في العالم.
7ـ نُظمت مظاهرات واعتصامات في عدد من دول العالم منددةً بالعدوان على غزة، واقتصرت في الوطن العربي على بعض الدول. كان لتلك التحركات أثراً محدوداً على مجرى المواجهات في غزة، وتغييراً محدوداً في مواقف دول داعمة للكيان الصهيوني خاصةً دول الإتحاد الأوروبي، دون إغفال المواقف المتقدمة لعدد منها خاصةً النرويج وإيرلندا وإسبانيا. كما لا بد من التنويه والإشادة بالدور المميز الذي قامت به دولة جنوب إفريقيا بتقديم دعوى لدى محكمة العدل الدولية وما صدر عنها، ورغم ذلك فإن العدوان استمر، لكنه كان لما بُث في جلسات الإتهام والدفاع أثر كبير في انكشاف الكيان الصهيوني على حقيقته الإجرامية على الصعيد العالمي. المظاهرات التي نُظمت في بعض العواصم والمدن العربية لم يكن لها تأثير ملموس، حيث كانت تقليدية ونمطية ولم تصل إلى درجة الضغط الفعلي على الأنظمة العربية والدول الداعمة للكيان الصهيوني، إذ تم تنظيم معظمها بعيداً عن سفارات تلك الدول بحيث لو نُظمت أمام السفارات ومحاصرتها ومنع الدخول والخروج منها بعيداً عن العنف لكان التأثير أكبر في مراكز القرار لتلك الدول.
8ـ لا تزال سردية “النصر والإنتصارات” تهيمن على العقل العربي، رغم أنه لا يجب اعتبار المواجهات مع العدو الصهيوني سواء عبر الحروب النظامية أو المقاومة وكأنها مباراة رياضية يطمح إدارة كل فريق وجمهوره إلى الفوز والنصر في المباراة، في حين أن المسألة متعلقة بمصير شعب وأمة. ألمهم تحقيق خطوات على طريق استرجاع الحقوق المسلوبة وليس تحقيق نصر في معركة التي هي وسيلة وليست هدفاً بذاتها؛ لقد خسر العرب في حرب حزيران 1967عسكرياً لكنهم حققوا لاحقاً إنجازات، وانتصروا في حرب 1973 ولكنهم خسروا سياسياً بخروج مصر من دائرة المواجهة عبر اتفاقية “كمب ديفيد”، وتجميد دور سوريا من خلال إتفاقيات فك الإرتباط.
9ـ استغل العدو انشغال العالم بمتابعة الحرب في غزة فرفع وتيرة اعتداءات قواته في الضفة الغربية أسفرت عن استشهاد وإصابة المئات، وأسر أكثر من 7000، وشرع ببناء حي سكني للمستوطنين في القدس، والتضييق على الفلسطينيين في المدينة خاصةً مخيم شعفاط، وأصدر قراراً بوقف عمل “الأونروا” في القدس، وبدأ إجراءات أبرام عدة عقود مع شركات عالمية للسيطرة على حقل غاز غزة، في الوقت الذي تطرح بعض القوى الفلسطينية والعربية والدولية المبادرة بعد الأخرى حول من يتولى إدارة قطاع غزة في اليوم التالي لانتهاء الحرب وكان الصراع من أجل كرسي وليس وطناً، وحقوق شعب نصف عدده في الداخل والنصف الآخر في الشتات.
10ـ رغم الأزمة الداخلية الحادة خاصةً ما يتعلق بالتعديلات الدستورية، والتباين بين التيار العلماني والديني في الكيان الصهيوني تم تشكيل حكومة موسعة من 38 وزيراً، وأُنشئ مجلس حرب لإدارة الحرب على غزة. في المقابل، لم تخرج الحالة الفلسطينية من قوقعة “الفصائلية” إلى رحاب الوطنية رغم اللقاءات والتنسيق بينها، حيث يسود في العالم مفهوم أن الصراع هو بين دولة عضو في الأمم المتحدة إسمها “إسرائيل” ومنظمة تصنفها عدة دول بأنها “منظمة إرهابية” وهي “حماس”، في حين أن المطلوب فلسطينياً وعربياً وبموجب القوانين الدولية تثبيت عملياً أن الصراع هو بين إحتلال يعمل على تثبيت وتوسيع إحتلاله وإلغاء شعب كامل، والتنكر لكل القرارات الدولية خاصةً تلك الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وبين الشعب الفلسطيني القابع تحت الإحتلال وهو يناضل لنيل حريته واستقلاله استناداً إلى حق تقرير المصير والشرعية الدولية المتمثلة بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجالسها المتخصصة، وهذا يستدعي الإستجابة لدعوات العديد من القوى السياسية الفلسطينية والعربية في مقدمتها حزب البعث العربي الإشتراكي إلى وحدة النضال الفلسطيني، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وأنضمام جميع المنظمات والأحزاب الفلسطينية إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي تحظى باعتراف عربي ودولي ووضع برنامج عمل مشترك يشمل النضال بكل وسائل المقاومة: العسكرية، والدبلوماسية، والشعبية، والإعلامية المنَسَقة، والإقتصادية والإجتماعية وغيرها.
الخلاصة: إن وجود وفد تفاوضي فلسطيني بدل وفود فصائلية هو أجدى للقضية الفلسطينية وأكثر تأثيراً ليس فقط بما يتعلق بحرب غزة الحالية وإنما حيثما تطلب الأمر حالياً وفي المستقبل لأن الصراع لا يزال طويلاً ما دام المشروع الصهيوني ـ الإستعماري في فلسطين والوطن العربي قائماً ولم يتغير( من الفرات إلى النيل…حدودك يا إسرائيل)، وكذلك “المشاريع الإمبراطورية” العابرة للحدود الوطنية لبعض دول الإقليم خاصةً مشروع “ولاية الفقيه” الإيراني (إمبراطورية فارسية عاصمتها بغداد) على حساب شعوب المنطقة خاصةً الوطن العربي. والسؤال الذي يطرح نفسه هل سترتقي الفصائل الفلسطينية إلى الدرجة المطلوبة وطنياً وتاريخياً وتحدث نقلة نوعيةً في علاقاتها البينية وبرنامجها الوطني الموحد بعد اجتماعها المتوقع في موسكو في 26 شباط الحالي بدعوة من القيادة الروسية، والإستفادة من أسباب تراجع وإجهاض إتفاق المصالحة بينها بالجزائر في ت1 2022؟ سؤال ينتظر جوابه كل فلسطيني وعربي وإنسان في العالم منحاز إلى الحق والعدالة، ومؤمن بحقوق الشعب العربي الفلسطيني.