صيغة مشروع قانون «الكابيتال كونترول» ستُسرّع التزايد المطرد للكتلة النقدية بغياب خطّة إصلاحية للنهوض…
قرار رسمي ضمني بتحرير سعر صرف الليرة… والمواطن يُواجه المجهول وحـيداً
البروفسور جاسم عجاقة
3 ايار 2021
يعيش المواطن اللبناني منذ تشرين الأول 2019 في ظل إستنسابية كاملة في التعاطي معه من قبل المصارف اللبنانية حيث يطبق النافذون عمليات تحويل إلى الخارج وسحوبات نقدية بالعملة الصعبة في حين أن المودع العادي لا يستطيع القيام بها بحرية وهو ما يُشكّل عملية كابيتال كونترول «شاذة» مُرفقة بعملية إقتطاع على الودائع من باب سعر صرف الدولار على السحوبات النقدية. هذا الواقع المرّ يفرض وضع «كابيتال كونترول» علمي محترف يؤمن العدالة في المعاملة كما نصّت عليه مُقدّمة الدستور أي التساوي أمام القانون ولكن أيضًا قدسية الملكية الفردية.
عاد «الكابيتال كونترول» إلى الواجهة في الأسابيع الماضية بعد ما يُقارب العام بعد فشل الاتفاق على مشروع مع صندوق النقد الدولي. وقد تمّ تسريب صيغة مشروع قانون «الكابيتال كونترول» في صيغته النهائية، وفي أغلب الظن أنه لدسّ نبض ردود الفعل والإعتراضات عليه وبهدف تسويقه أمام رأي عام لا يعلم بالضرورة ماهية وهدف الكابيتال كونترول عامة وإذا ما كانت الصيغة الحالية ستسمح بحماية أموال المودعين أم لا. وبالتالي سنعرض فيما يلي ما يقوله العلم عن ضوابط رأس المال قبل الحديث عن صيغة المشروع المطروح.
الكابيتال كونترول في علم الاقتصاد
ضوابط رأس المال أو ما يُعرف بالـ «كابيتال كونترولز» هي عبارة عن مجموعة من الإجراءات داخل حدود بلد مُعيّن تفرضها الحكومة بهدف تنظيم تدفّق رؤوس الأموال من الداخل إلى الخارج. وقد تشمل الإجراءات:
– البيئة الإقتصادية عادة بهدف تفادي الـ «delocalization»، أو منع خروج بعض الصناعات الاستراتيجية (النووي أو التكنولوجيا)، أو فرض عقوبات…
– البيئة المالية خصوصًا القطاع المصرفي وذلك بهدف تجنب خروج كبير لرؤوس الأموال نتيجة أزمة في البلد أو نتيجة خطّة مُعيّنة قد تضعها الحكومة بهدف دعم الاقتصاد…
وتسري هذه الإجراءات على كل التدفقات المالية أو بحسب طبيعتها مثل تحويل الأموال، الإستثمارات (قصيرة أو طويلة الأمد)، الديون (قصيرة أو طويلة الأمد)، سحب الأموال النقدية، الحدّ من المضاربة على العملة الوطنية مع تثبيت سقف مسموح به للبيع…
هناك تضارب بالأراء حول إذا ما كان الكابيتال كونترول مفيداً أم لا، وفي أي إطار يُمكن إستخدامه؟ فعلى الرغم من أن الكابيتال كونترول كان جزءاً لا يتجزأ من نظام «Bretton Woods»، إلا أن سبعينات القرن الماضي شهدت ثورة الإقتصاديين الليبراليين حول الضرر الكبير الذي يُشكّله وضع مثل هذه الإجراءات على عمل السوق الحر. وعلى هذا الأساس كان لبعض الدول الغربية (الولايات المُتحدة، بريطانيا…) مواقف منتقدة لضوابط رأس المال. والمُلفت في الأمر أن
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أخذا مواقف مُناهضة للكابيتال كونترول وهو ما يذهب بإتجاه نظريات إقتصادية ليبيرالية عديدة تدعم العولمة خصوصًا على الصعيد المالي وعلى صعيد الإستثمارات.
بالطبع في الإقتصادات المُوجّهة حرية تنقل رؤوس الأموال هو أمر غير متوفّر بالضرورة وبالتالي غابت الإستثمارات العالمية عن البلدان ذات الطابع الشيوعي نظرًا إلى التقييد على رؤوس الأموال ولكن أيضًا خوفًا من عمليات التأميم.
بعض الإقتصادات الحرّة في العالم إعتمدت «الكابيتال كونترول» على إثر أزمات مالية أو إقتصادية مثل الأزمة الأسيوية في تسعينات القرن الماضي أو الأزمة العالمية في العام 2008، أو الأزمة القبرصية في العام 2013، أو الأزمة اليونانية في العام 2015، لفترات قصيرة كان هناك إجراءات حكومية للسيطرة على الأزمة.
حرّية تنقل رؤوس الأموال، في ظل شراهتها وجبنها، جعلها مصدراً للأزمات بحدّ ذاتها وبالتالي تمّ إتخاذ إجراءات إحترازية من قبل الحكومات بالتوازي مع سياسات الاقتصاد الكلي كوسيلة لتخفيف آثار التدفقات المتقلبة على اقتصادات الدول. الجدير ذكره أن واحدة من التعقيدات التي تفرضها حرّية تنقل رؤوس الأموال هي ما ينصّ عليه مثلّث عدم التوافق (impossible trinity): لا يُمكن الحصول على حرية تنقّل رؤوس الأموال، وسعر صرف ثابت، وسياسة نقدية مُستقلّة في آن واحد. هذا الأمر لا يعني أن حرية تنقّل رؤوس الأموال هي غير جيّدة، لا بل على العكس، عدم وجودها يحرم البلد من رؤوس الأموال التي تُعتبر المُحرّك الأساسي للنمو الاقتصادي (مثال تركيا).
عمليًا، إقرار قانون كابيتال كونترول يطال القطاع المالي، يجب أن يأتي في ظلّ خطّة حكومية تكون فيها مُدّة العمل بالقانون قصيرة وذلك بحكم أن الهدف هو لجم حركة رؤوس الأموال الناتجة عن الذعر من أزمة مُعيّنة على أن تُعالج الخطّة الحكومية أسباب الأزمة وتُخفف من مخاوف أصحاب رؤوس الأموال.
«الكابيتال كونترول» في لبنان
«الكابيتال كونترول» في لبنان، كان ليكون ذا فائدة قصوى في أوائل الأزمة ـ أي في تشرين الأول 2019 ـ بالتوازي مع خطّة حكومية تُعالج الخلل القائم آنذاك والمُتمثّل بغياب السياسات الإقتصادية وإنتشار مُفرط للفساد. هذا الأمر لم يحصل على الرغم من ضغط صندوق النقد الدولي (منذ ما يُقارب العام) وبالتالي ومع ارتفاع الأصوات بإقرار القانون، أصبح قانون الكابيتال كونترول مطلبًا شعبيًا قد يكون المُحرّك الأساسي لما يحصل حاليًا. وبالنظر إلى مُحتوى المشروع المُسرّب لقانون الكابيتال كونترول، يُمكن الإستنتاج أنه آت لتلبية مطلب شعبي (وشعبوي!) أكثر منه لمعالجة الأزمة نظرًا إلى الثغرات التي تعتريه والتي لن توصل إلى الهدف النبيل منه أي حماية أموال المودعين ووقف الإستنسابية. الملاحظات على هذا المشروع عديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا ـ لا يوجد حكومة أصيلة خلف مشروع القانون هذا وبالتالي فإن إقراره يعني بكل بساطة ألا آفاق عملية أو زمنية له على الرغم من تحديد فترة سنة قابلة للتجديد. وبالتالي لا يُمكن لهذا القانون أن يكون حلا للأزمة بل يجب أن يكون إجراء إلزاميا في مصفوفة إجراءات يتوجّب على الحكومة أخذها؛
ثانيًا ـ تنص الفقرة «أ» من المادّة الثانية على أن سقف السحوبات للمودعين هو 20 مليون ليرة لبنانية شهريًا. وهنا يُطرح سؤال جوهري: من أين ستأتي المصارف بهذا الكمّ من الليرة اللبنانية؟! ألن يتمّ طبع العملة من أجلّ تلبية هذا الطلب الذي سيكون هائلا من دون أدنى شكّ؟! في الواقع التقديرات الأوّلية أن حجم الكتلة النقدية سيتضاعف في فترة لا تتجاوز العام!
في الواقع هذا السقف هو سقف شعبوي بإمتياز نظرًا إلى أن الحاجة لليرة اللبنانية هي في التعاملات الداخلية وبالتالي كان يجب بالأحرى فرض قبول وسائل الدفع الأخرى على التجّار نظرًا إلى أنهم يُساهمون بشكل كبير في طبع العملة المُفرط!
ثالثًا ـ تنصّ الفقرة «ج» من المادّة الثانية على أنه يمكن لأصحاب الودائع بالعملة الصعبة أن يسحبوا أموالهم بالليرة اللبنانية على أن يتمّ الأخذ في الاعتبار «أسعار السوق الرائجة». هذا الأمر يعني إعترافًا ضمنيًا من قبل المُشرّع اللبناني بتحرير كامل لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي مع ما يحمله هذا الأمر من مخاطر من ناحية سدّ القروض وأسعار السلع الأخرى (خصوصًا المدعومة)، وبالتالي تُرك المواطن اللبناني في وسط العاصفة يُحارب وحده كما كان الحال في الثمانينات والتسعينات.
هذا الأمر ليس بإنجاز! الإنجاز هو وضع خطّة لردّ أموال المودعين وبعملة الوديعة.
رابعًا ـ إستثنت الفقرة الرابعة من المادّة نفسها من مشروع القانون السحوبات النقدية من الودائع بالعملة الأجنبية التي تكوّنت من تحويلات من الليرة اللبنانية بعد العام 2016. وبالتالي قام المجلس النيابي بخلق دولار جديد هو الدولار المصرفي غير القابل للسحب على سعر السوق الرائجة والناتج عن تحويلات من الليرة اللبنانية!
السؤال المطروح بالنسبة لهذه المادة، ما حال عمليات الصرف على الـ 1515 للمبالغ قبل هذه الفترة وبعدها، هل سيتم اعتمادها أم سيطالب أصحابها برد الفارق. وهل يمكن تصنيف العمليات السابقة بقوانين لاحقة – أي مفعول رجعي؟ وما قيمة الالتزامات والعقود؟ وهل يمكن أن يفتح ذلك بابًا لضرب مصداقية جميع الالتزامات والعقود بين المتعاقدين في المجالات الأخرى؟ أي إنها سابقة في مفهوم الالتزام وباب للتفلت منها. هنا نرى الاستنسابية والتخبط في صياغة هذه المادة المخالفة لروح الواجبات والحقوق في التشريع المدني.
في الواقع يتساءل المرء عن هدف هذه المادة وكيف لهم أن يقوموا بتطبيقها؟ فعلى سبيل المثال، إذا قام مودع بتحويل أمواله من الليرة إلى الدولار بعد عام 2016 وقام بعدها بشراء عقار من شخص أخر، فهل سيتم إعتبار الحساب الجديد لبائع العقار على أنه أموال مُحوّلة من الليرة إلى الدولار؟ وكيف يمكن التفريق بين ما وضعه المودع نتيجة عملية صرف في بنك آخر من عملية بيع بالدولار خصوصًا إذا كانت الإيداعات تحت سقف تصريح مصدر الأموال… في الواقع هناك إستحالة لتطبيق هذه المادة تقنيًا!!
خامسًا ـ نصّت الفقرة الخامسة من المادة نفسها على منع التحويل من الليرة اللبنانية إلى العملة الصعبة إلا في حال توفّر التغطية النقدية الكافية لدى المصرف. هذا الأمر لا يُفيد المودع بحكم أن المصرف لن يقوم بأي عملية تحويل إما لأن لا مصلحة له فيها متذرعاً بعدم وجود التغطية للبعض دون الآخرين وبالتالي فإنه إما أن يقوم بذلك من أمواله الخاصة (لا مصلحه له) أو من أموال المودعين الأخرين، أو نظرًا إلى غياب أي خطّة إنقاذية تجعله قادراً على تصور حد للإستنزاف الحاد والإلتزامات غير المجدية. وكلاهما أمر مستبعد في أحسن حالاته إن لم يكن مُستحيل التطبيق!
سادسًا ـ الفقرة 1 من المادّة الثانية عرفت «الأموال الجديدة» من دون أن تُحدّد التاريخ مما يعني أن كل الأموال التي تمّ تحويلها من الحسابات المصرفية من خارج لبنان إلى لبنان قبل تاريخ إقرار القانون غير مشمولة وهذا غير عادل للمودعين أيضاً نظرًا إلى وجود تعاميم سابقة من قبل مصرف لبنان. هذه الأخيرة أقّل قدرة مُقارنة بالقوانين وبالتالي فإن أي خلاف بين المودعين والمصارف (وستكون عديدة) سيتمّ إعتماد القانون!
أيضًا هل هذه داخلة تحت إبتداع مصطلح قانوني جديد. أي: هل بدعة الأموال «الجديدة» ستصبح مصطلحاً قانونيًا جديدًا في عالم القانون اللبناني ومنه إلى قانون النقد والتسليف؟
سابعًاـ إستثنت الفقرة الثانية من المادة الثانية أموال المؤسسات الماليّة الدوليّة والسفارات الأجنبية والمنظمات الدوليّة والإقليميّة والعربية. فهل هذا يعني أن هذه المؤسسات يحق لها أن تقوم بعمليات صرف معتمدة دون غيرها من المودعين بغض النظر عن تواريخ هذه العمليات، ومن يتحمل تكلفة هذا الصرف إذا علمنا أن الكلفة الحقيقية تقع على العملة اللبنانية من خلال الاحتياطي؟
وهنا يُطرح أيضاً سؤال آخر في هذا المجال: هل الأموال السورية هي ضمن هذه الإستثناءات؟ وماذا عن قانون قيصر؟
ثامنًا ـ نصّت النقطة «د» من الفقرة الثانية من المادّة الثالثة على إستثناء من يريد تسديد نفقات في الخارج عائدة للاشتراكات والتطبيقات على الإنترنت. وهذا الأمر قد يفتح بابًا لتهريب الأموال إلى الخارج من خلال إتفاقيات مع شركات خارجية قد تُنشأ لهذا الأمر. وكان المفروض وضع سقف سنوي لا يُمكن تخطّيه!
تاسعًا ـ نصّت الفقرة «ثانيًا» من المادّة الثالثة على ألا يتعدّى السقف لكل الفئات المُستثناة من منع التحويل، الـ 50 ألف دولار أميركي سنويًا. وهنا يُطرح السؤال عن قدرة المصارف على تلبية هذا الكمّ الهائل من التحاويل على الرغمّ من أحقّية هذه العمليات قانونيًا وأخلاقيًا وإقتصاديًا؟
عاشرًا ـ طرحت الفقرة «ثالثًا» أن السقوف السنوية هي إجمالية من جميع حساباته بما فيها المُشتركة لدى جميع المصارف اللبنانية! وهنا يُطرح السؤال: من سيقوم بهذا التدقيق؟ ألا يوجد هناك سريّة مصرفية؟ ألا تتعارض هذه الفقرة مع قانون سرّية المصارف؟
على كل الأحوال، لائحة المُلاحظات على قانون الكابيتال كونترول تطول ووجب علينا علميًا إظهار بعضها علّها تصل إلى آذان المعنيين ليعلموا ضرورة تشكيل حكومة تتحمّل مسؤولياتها (الدين العام مثلا!) ويكون فيها قانون كابيتال كونترول عادل ومُحكَمْ جزءًا من خطتها، لا قانونًا أعرج تعتريه النواقص والثغرات سعياً وراء رضا صوري لرأي عام على بعد عام من الانتخابات النيابية.
تفاعل سلبي من قبل المؤسسات الدولية
من نتائج المغامرة غير المحسوبة لحكومة دياب في عدم دفعها لسندات «اليوروبوندز»، تتكشف الآن في الأسواق خطوات منطقية تعكس سوء الحالة اللبنانية ليس على المستوى الداخلي فحسب بل على المستوى العالمي، وآخرها قرار إحدى أهم المؤسسات الدولية، والرافعة المعتبرة للأسواق المالية ستاندارد آند بورز. إضافة إلى ذلك، فإن التقاعس في تشكيل الحكومة وإطلاق خطّة نهوض بالتوافق مع صندوق النقد الدولي، دفع العديد من المُستثمرين إلى الهروب نظرًا إلى المخاطر العالية الناتجة عن إعلان الحكومة وقف دفع سندات «اليوروبوندز» و«الكابيتال كونترول» المفروض على الأرض.
على هذا الصعيد أطلقت وكالة التصنيف الإئتماني «ستاندارد آند بورز» (بالتحديد القسم الذي يُعنى بمؤشرات سوق الأوراق المالية) عملية إستشارية بهدف سحب الأسهم اللبنانية من كل مؤشراتها نتيجة «لأسوأ أزمة اقتصادية في لبنان منذ عقود». وقالت الوكالة إنها اتخذت بالفعل بعض الإجراءات بهدف «معالجة مشاكل الوصول إلى الأسواق في لبنان والناجمة عن فرض ضوابط على رأس المال» مُشيرة إلى أنه «لم يتم إحراز تقدم يذكر لمعالجة المشاكل التي تسببها هذه الضوابط».
وفي بيانها قالت الوكالة «بالنظر إلى الوضع في البلاد فيما يتعلق بنقص العملات الأجنبية ومخاوف إستعادة الأموال، تقترح «S&P DJI» إزالة مكونات المؤشر الموجودة في لبنان من مؤشر «S&P Pan Arab Indice» وقامت الوكالة بإعادة تصنيف لبنان من سوق حدودي (frontier market) إلى سوق معزول (stand-alone market) في شباط الماضي، وبالتالي إزالة جميع المكونات من مؤشر «S&P Frontier BMI» والمؤشرات الفرعية ذات الصلة».
هذا الأمر سيكون له تداعيات مباشرة على كلٍ من بنك عودة، وبلوم بنك، وبنك بيبلوس، وشركة سوليدير، ولكن أيضًا على الإستثمارات الدولية في لبنان نظرًا إلى أن المُستثمر يلجأ إلى وكالات التصنيف الإئتماني من أجل معرفة تصنيف البلد والحصول على «Benchmark» لتقييم أداء الإستثمارات.