كلمة الطليعة : الاجابة على تساؤل اليوم التالي …
كلمة الطليعة :
الاجابة على تساؤل اليوم التالي …
بعد تسعة اشهر على المواجهة التي اندلعت شرارتها بعد السابع من اكتوبر ، مازالت رحى العمليات العسكرية تدور رحاها على مساحة قطاع غزة بكل مدنه ومخيماته وحواضره ،مع ما يترافق معها من رمي بالصليات الصاروخية والقذائف المدفعية لعمق للكيان الصهيوني وما يسمى بغلاف غزة ، ودون ان يتمكن العدو من تحقيق اهدافه التي حددها لحربه على غزة ، وهي القضاء على “حماس” وتخليص من تم اسره في يوم الاعلان عن “طوفان الاقصى”.
لقد اعتمد العدو في حربه ضد غزة سياسة الارض المحروقة ضد البشر والحجر والشجر ، ومع كل الامكانات العسكرية واللوجستية التي يمتلكها ودعم اميركا ومن يدور في فلكها ، لم يستطع هذا العدو ان يلوي ذراع المقاومة التي بقيت رغم الحصار المفروض براً وبحراً وجواً تقاوم ، منزلة به خسائر بشرية وعسكرية لم يكن يتوقعها منذ اتخذ قرار الحرب على غزة وتجاوز في سياقاتها كل قوانينها التي نصت عليها المواثيق الدولية . وهذا ماجعل فعله يقع تحت توصيف جريمة الحرب والجريمة ضد الانسانية في تنفيذه حرب ابادة جماعية جعلته يقع تحت المساءلة القضائية الدولية ، سواء تلك التي ينعقد اختصاصها لمحكمة العدل الدولية التي وضعت يدها على الملف بفعل مبادرة دولة جنوب افريقيا وتتالي انضمام الدول الى الدعوى ، والتي اصدرت حتى الان اكثر من قرار بشأن ارتكاب “اسرائيل “لابادة جماعية بحق شعب منحته الشرعة الدولية المتعلقة بحق الشعوب في تقرير المصير مشروعية مقاومة الاحتلال ، او تلك التي ينعقد الاختصاص فيها للمحكمة الجنائية الدولية لثبوب ارتكاب دولة العدوان لجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وهو مادفع المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لان يوجه طلباً الى الغرفة الابتدائية في المحكمة باصدر مذكرة توفيف بحق رئيس وزراء العدو بنيامين نتانياهو.
. واذاكانت قرارات واحكام هذه المرجعيات القضائية تفتقر الى قوة التنفيذ الحكمية لربط الاجراءات التنفيذية باجازة مجلس الامن الدولي الذي تشل حركته الصلاحيات الممنوحة للاعضاء الدائمي العضوية ، والتي تخول كل واحدة منها تعطيل اي قرار لاترى فيه مصلحة ذاتية لها عبر اللجوء الى استعمال حق النقض ،فإن القوة الاعتبارية لهذه القرارات تبقى قائمة ، وهي تدلل على مستوى التحول الايجابي في الرأي العام الدولي لمصلحة فلسطين وقضيتها .
ان القرارات القضائية الدولية وان كانت لاتتمع بقوة التنفيذ الجبري لقراراتها ، الا انها تسجل سابقة لم يحصل ان شهدها تاريخ الصراع العربي الصهيوني منذ بدأ التنفيذ العملاني لاغتصاب فلسطين واقامة الحركة الصهيونية لكيانها بدعم استعماري على ارض فلسطين تنفيذاً لوعد بلفور الذي استند الى ما سبق وصدر من قرارات وتوصيات عن المؤتمر الاستعماري الذي عقد مابين ١٩٠٥ و١٩٠٧. هو ما بات يعرف بمقرارت مؤتمر كامبل بانرمان.
ان الادانة القضائية “لاسرائيل” لارتكابها جرائم حرب وجرائم ضدالانسانية ، أتت بعد وقت ليس بالبعيد على تصنيف هذه الدولة ، بدولة الفصل العنصري ( الابارتهايد ) ، وهذا كله بات يترافق مع اتساع مساحة الادانة الدولية لهذا الكيان الغاصب ولو من زاوية انتهاكه لاحكام القانون الدولي الانساني ، وارتفاع منسوب التفهم والتأييد الدوليين لحق شعب فلسطين بتقرير مصيره ، وهو ماعُبِّر عنه بعدد الدول التي صوتت على منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الامم المتحدة.
ان هذا التحول في الرأي العام الدولي ما كان ليحصل لولا عاملان اساسيان ، الاول ،مقاومة شعب فلسطين التي تراكمت معطياتها على مدى المرحلة السابقة “لطوفان الاقصى “، والثاني ، حجم الفظائع الجرمية التي ارتكبها الكيان الصهيوني قبل السابع من اكتوبر وبلغت ذروتها بعده. وهذين العاملين اللذين يفتقران الى قوة التنفيذ الجبري سيفقدان اهميتها ان لم يتم تثميرهما سياسياً. والتثمير السياسي هو الذي يحدّد ما اذا كانت نتائج المواجهة على الارض وحجم التضحيات التي قدمت على كافة الصعد والمستويات تندرجان في خانة الربح او الخسارة. وهذا يتوقف على أبْعَاد القراءة الساسية لما حصل منذ السابع من اكتوبر بكل سياقاته ، وما هو مطروح لما يسمى باليوم التالي ، اي اليوم الذي تتوقف فيه العمليات العسكرية وليس الصراع بكل ابعاده ومضامينه.
ان التحول في الرأي العام الدولي الذي انعكس في القرارات الذي اتخذت في دوائر الفعل القضائي والسياسي والدبلوماسي ، حصل بفعل القراءة السياسية في صلب هذه الدوائر لما حصل على ارض الواقع وبكل تراكماته السابقة. والقرارات المتخذة انطلقت اولاً، من واقع حرب الابادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني ، كما انطلقت ثانياً ، من مشروعية حق شعب بالمقاومة والنضال من اجل حقه بتقرير مصيره. ولذلك ، فان الرأي العام الذي سجل قفزة نوعية في تعاملة مع هذه القضية التي باتت قضية العصر ، لم يتعامل مع الواقع استناداً الى قراءة “اسرائيل” السياسية وما حددته لنفسها من بنك اهداف سبق وجرت الاشارة اليها ، كما لم يتعامل معها استناداً الى القراءة الفصائلية للمقاومة على اختلاف مواقعها وادوارها في عملية المواجهة المفتوحة مع العدو. ولهذا تمحورت القراءة السياسية في هاتين الدائرتين حول القضية الفلسطينية باعتبارها قضية حق وطني لشعب يناضل من الحرية وتقرير المصير ، وقضية حق انساني باعتبارها قضية مقاومة لحرب الابادة الجماعية ومقاومة للاتجاهات العنصرية ومعها كل الانتهاكات لحقوق الانسان وخاصة تلك التي حددتها احكام القانون الدولي الانساني.
إن هذه القراءة السياسية التي فعلت فعلها في الدوائر الدولية ، القضائي منها والسياسي ، لم توازها قراءة ببعد وطني من القوى الفصائلية على الساحة الفلسطينية ومن دوائر القرار الرسمي العربي ، كما من كل المتعاطين مع القضية الفلسطينية ، من كان منه في موقع المتحالف مع العدو الصهيوني ، او من كان منه في موقع المستثمر بالقضية الفلسطينية خدمة لاجندة مشروعه الخاص على مستوى الاقليم .
ان القراءة السياسية وعلى الاقل من الجانب الفلسطيني ، التي تنطلق في ادارتها للموقف على مستوى المسرح العملاني المقاوم ، كما في ادارة الشأن الوطني الفلسطيني ، انطلاقاً من الرؤية الفصائلية على مجريات الصراع والتعامل مع الاطراف ذات الصلة به من كان منها مؤيداً للعدو الصهيوني او متماهياً معه او من كان مؤيداً للحق الوطني الفلسطيني بصدق وليس “بتقيةٍ” مموهةٍ ، ستصيب القضية الفلسطينية في مقتلٍ ، وستؤدي بالتالي الى اجهاض كل التحولات الايجابية التي حصلت في دوائر القرار الدولي بفعل التضحيات الجسيمة التي قدمتها جماهير فلسطين في غزة اولاً ،وفي الضفة الغربية والقدس ثانياً ، وعلى مساحة ارض فلسطين التاريخية ثالثاً .
ان سلبيات القراءة الفصائلية ستريح اعداء فلسطين من العدو الصهيوني الى القوى الدولية المتحالفة والداعمة له ، كما ستريح القوى التي تستثمر بالقضية الفلسطينية ، كما قوى النظام الرسمي العربي الذي تجاوز موقفها حد التخاذل الى حد التواطؤ . وان المتضرر بالدرجة الاولى ، هي قضية فلسطين ، باعتبارها قضية شعب مستهدف بالاقتلاع واسقاط الهوية الوطنية ، وقضية امةٍ بالدرجة الثانية ، باعتبار ان فلسطين لم تكن مستهدفة لذاتها وحسب ، وانما الامة برمتها، والانسانية بالدرجة الثالثة ، باعتبار ان نضال شعب فلسطين يتصدر الموقف المقاوم للصهيونية ولكل اشكال الفصل العنصري.
ان القراءة الفصائلية التي تخدم اعداء فلسطين ، ستجعل الالتباس الذي يلف معطى اليوم التالي يزداد حدة وتشويشاً ، لانه ينصب حول ادارة الشأن الفلسطيني بعد توقف العمليات العسكرية. واهمية تحديد معالم هذا اليوم انه يرسم خارطة طريق للادراة السياسية للشأن الفلسطيني. اذ فيما العدو يريده يوماً لاستحضار نموذج ادارته واشرافه الامنيين على غزة اسوة بما هو حاصل في الضفة الغربية التي ابتلعها الاستيطان ، والرؤية الفصائلية تريده يوما لاستعادة سلطتها ، فان جماهير فلسطين الذي سالت دماؤها غزيرة وصمدت وصبرت فوق مايتصوره العقل الانساني ، تريده ان يكون يوماً لتكريس الحق الوطني الفلسطيني الذي بدأت ملامحه ومؤشراته بالظهور في المنتديات الدولية ، وتريده يوماً يكون فيه العلم الفلسطيني بديلاً لغابة الاعلام الفصائلية التي تختلط الوانها بمقدار اختلافاتها السياسية والتي يفترض ان تتراجع وتسقط امام وحدة الموقف والرؤية لادارة الصراع ببعده الاستراتيجي وطنياً وقومياً وانسانياً ،وفي التعامل مع النتائج التي افرزتها سياقات المواجهة التي انفتحت على نطاقها الواسع بعد “طوفان الاقصى”.
من هنا فإن القراءة السياسية الفصائلية لمجرى الصراع مع العدو الصهيوني بكل تحالفاته الدولية وتفاهماته الاقليمية ، كي تؤتي ثمارها، يجب أن تستحضر في صياغاتها اولوية الوحدة الوطنية ، انطلاقاً من فهم ان المرحلة التي يمر بها نضال شعب فلسطين هي مرحلة تحرر وطني ، وليست مرحلة صراع على السلطة . والقراءة السياسية الفلسطينية التي تستحضر اولوية الوحدة الوطنية بقدر ماهي حاجة وطنية ، هي ضرورة للضغط على الواقع العربي بشقيه الرسمي والشعبي حتى يرتقي في تعاطيه وتفاعله مع ثورة فلسطين باعتبارها خط دفاع امامي عن الامن القومي ،كما هي حاجة لمحاكاة التحول الايجابي في الرأي العام الدولي لاجل تثميره في خدمة موقف “الحرية لفلسطين”.
على هذا الاساس فإن القراءة السياسية على ارضية الوحدة الوطنية ، تضع حداً للالتباس حول جواب مآلات اليوم التالي ، حيث الوحدة الوطنية الفلسطينية على ارضية برنامج مقاوم متوجه نحو التحرير ، تبقى عامل الاستعصاء امام تصفية الحق الوطني ، وعامل الاستعصاء امام عملية الاستثمار بهذا الحق الوطني ، وعامل الصد امام مراهنات تجاذبات الموقف الوطني الفلسطيني حول حلول لاتعدو كونها في احسن حالاتها مجرد ترتيبات امنية وسياسية وادارية تفرضها مرحلية الصراع في ضوء حسابات القوى التي تنخرط في اليآته وفق مقتضيات حاجاتها وظروفها الخاصة.
قد يكون الشعار المرحلي هو وقف الحرب التدميرية على غزة واسقاط نتائج العدوان بعدم تمكينه من تحقيق اهدافه ، لكن الشعار الاستراتيجي يجب ان يبقى اسقاط الاحتلال الصهيوني بكل تعبيراته واستهدافاته ، وتحرير فلسطين واقامة دولتها المستقلة على كامل ترابها الوطني ، وهذا يتطلب استحضار الثوابت في صياغة الموقف على الصعيدين النظري والعملي ،وانطلاقاً من فهمٍ للصراع مع المشروع الصهيوني ، بأنه صراع وجود وليس صراع حدود ،الذي ان خمدت جذوته في لحظة ، الا انه سرعان ماسيعود للانفجار بحكم التناقض الوجودي بين المشروع الصهيوني المحتضن امبريالياً والمشروع القومي العربي بكل ابعاده ومضامينه التحررية والذي لاتستقيم الحياة لاحدهما الا بنفي الاخر “وطوفان الاقصى” نموذجاً .
فإلى هذه الوحدة الوطنية الفلسطينية التي تكمن فيها الاجابة الصادقة وغير المموهة على تساؤلات اليوم التالي … وإلا فإن التاريخ لن يرحم ، واحكامه ستكون شديدة القسوة على من يفرط بالحق الوطني خاصة اولئك الذين يقدمون القراءة السياسية الفصائلية على القراءة الوطنية ببعديها التحريري والتوحيدي .