طليعة لبنان الواحدقيادة قطر لبنان

كلمة الطليعة : عندما يتحول “طوفان الاقصى” الى طوفانٍ سياسي

كلمة الطليعة :

عندما يتحول “طوفان الاقصى” الى طوفانٍ سياسي

بعد ثمانية اشهر على المواجهة الدائرة على ارض غزة ،بعد عملية “طوفان الاقصى ” ، ماتزال المواجهة على اشدها ، وهي الاطول في المواجهات مع العدو الصهيوني منذ اغتصاب فلسطين لستةٍ وسبعين سنة خلت.
بعد ثمانية اشهر والمعارك المحتدمة على الارض تدور وكأنها في ايامها الاولى . فالعدو ورغم زجه لنخبه العسكرية من قوات جيشه المجهز باحدث الاسلحة ، لم يستطع ان يلوي ذراع المقاومة ويفرض عليها شروطه التي اعلنها يوم اطلق العنان لآلته الحربية لتقتل البشر وتدمر الحجر وتحرق الشجر .فلا هو استطاع ان يقضي على “حماس” كما ادعى ، ولا هو استطاع ان يستعيد اسراه الذين وقعوا في قبضة المقاومين صبيحة السابع من اكتوبر ، ولا هو حقّق مبتغاه الاصلي بدفع سكان غزة الى خارج حدودها باتجاه سيناء تنفيذاً لاهدافه المضمرة بتفريغ فلسطين من سكانها عبر “الترانسفيرات ” التي بدأها قبل الاغتصاب ويستمر عليها من خلال ممارسته لسياسة التطهير العرقي وتنفيذ المجازر الجماعية بحق المدنيين والعزّل ، والتي كانت عملية حرق المخيمات في رفح واحدة من تلك الفظائع التي يرتكبها واودت حتى الان بمايقارب الخمسين الف شهيد واضعاف هذا العدد من الجرحى والمفقودين ، ودفع مئات الالوف من ابناء غزة الى العراء والاقامة في الخيم التي تضرب بالقنابل الحارقة بعدما دمرت البيوت على رؤوس ساكينها.
ان المقاومة الفلسطينية التي تتصدى للعدو في ظل عدم التناسب بين الامكانات العسكرية التي تحوذ عليها بالقياس الى امكانات العدو ، وتَمَكُنِها من الصمود لهذه المدة الطويلة وهي تدير عملياتها العسكرية بكفاءة واقتدار عاليين ، خاصة لجهة التحكم والسيطرة على الادارة اللوجستية ،لم تدفع العدو لان يفقد صوابه وحسب ، بل جعلته يواجه مأزقاً لايجد طريقاً للخروج منه الا الهروب الى الامام عبر اعتماد سياسة الارض المحروقة ضد غزة بكل حواضرها. واذا كانت حكومة العدو التي تدير الحرب على غزة ، تعاند الاستجابة لدعوات وقف اطلاق النار وفك الحصار ،فلانها تعرف ماذا ينتظرها وخاصة رئيسها من مساءلة ومحاسبة عن فساد وتقصير وسوء تقدير لادارة الحرب التي ظنت انها ستكون سهلة ،فاذ بها تفاجأ بأنها اصعب مما تصوره كثيرون وان كلفتها كبيرة جداً ليس في جانبها العسكري وما تكبده العدو من خسائر في عدده وعديده ، وإنما في الجانب السياسي الذي الذي تتسع امداءاته على مساحة العالم من شرقه الى غربه ومن شماله الى جنوبه.
ان رئيس حكومة العدو ومعه العصبة المتعصبة المشبعة بروح العداء العنصري للفلسطينين خاصة وللعرب عامة ، يدفعان باتجاه اطالة امد الحرب ، علهما يؤخران استحقاقات تنتظرهما في داخل الكيان الصهيوني مع مراهنة على تعب يفل من عزيمة المقاومين ، ومن قدرة الجماهير على الصمود والتشبث بالارض رغم القصف التدميري الذي لم تشد البشرية مثيلاً له في تاريخها الحديث.
واذا كان لايعّول كثيراً على التفاعلات السياسية داخل الكيان الصهيوني الا من جانب اظهار حجم الارتدادات القوية لعملية “طوفان الاقصى”، لان الكل الصهيوني ، من هو في موقع السلطة او من هو في موقع المعارضة يحكمه وحدة الموقف تجاه الحقوق الوطنية الفلسطينية ، واذا ما تمايزت المواقف فهي لاتتجاوز حدود الصراع على السلطة ، على غرار التمايز بين الموقفين الصهيوني والاميركي حالياً على ادارة الحرب وليس على اهدافها التي سبق لحكومة العدو أن اعلنتها في اليوم التالي للسابع من اكتوبر. ففي المجتمع السياسي الصهيوني ، لاوجود لمعتدلٍ ومتطرفٍ ، ولا ليمينٍ ويسارٍ ، لانهم جميعاً متطرفون تجاه حق شعب فلسطين بارضه وحقه باقامة دولته ، وكلهم يمينيون عنصريون تجاه هذا الشعب الذي تريد الحركة الصهيونية اسقاط هويته الوطنية لاثبات ان فلسطين كانت بالاساس ارضاً بلا شعبٍ ، واعطيت لشعبٍ بلا ارض ، سنداً لزعم تاريخي بانها ارضُ ميعادٍ لمن سبق واخرج من تلك الارض ، وهذا الزعم الذي لم يصمد امام قوة الاثبات التاريخي الذي يدحض هذا الزعم يعمل التحالف الصهيو-استعماري لفرضه بالقوة وتشريعه كامر واقع استناداً الى فائض القوة االذي يمتلكه.

لقد وظف هذا التحالف وعلى مدى قرن امكاناته وقدراته التأثيرية في دوائر القرار الدولي وفي المنتديات السياسية الدولية وفي وسائل الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب ، وفي الصناعة السينمائية والمسرحية، على تقديم “اسرائيل”، على انها دولة آمنة مسالمة وهي دائماً في موقع “المعتدى” عليها “والضحية” ، وان كل من يعترض على ماتقوم به من اعمال ضد الفلسطينين والعرب انما يتهم بالارهاب ، واكثر من ذلك بالتحريض على “الكراهية ومعاداة السامية” .وهذه الصورة النمطية بقيت سائدة ويروج لها ، وكثيرون وقعوا تحت تأثير “البروبغندا” الاعلامية التي تروج لهكذا مفاهيم حتى حصلت عملية “طوفان الاقصى”.
ان عملية “طوفان الاقصى” التي لم تكن الاولى في سياقات المواجهات مع الكيان الصهيوني الاستيطاني الاحلالي وبطبيعة الحال لن تكون الاخيرة طالما بقي الاحتلال قائماً لفلسطين ،بعضها او كلها ، وانطلاقاً من فهمٍ عميق لحقيقة الصراع بين الحركة الصهيونية بكل شبكة علاقاتها والامة العربية التي كانت ولما تزل مستهدفة بكل بعدها القومي من هذا المشروع الاستعماري المستقر حالياً على ارض فلسطين ، فإن اهميتها لاتكمن في ما استطاعت تحقيقه على الارض وحسب ، وانما بما احدثته من تحولات في الرأي العام العالمي وفي الاوساط السياسية الدولية التي كانت تقارب المسألة من خلال وجهة النظر الصهيونية.
ان اهمية هذه التحولات ، انها حققت اختراقاً لحواجز وحجابات دولية كان محظور عبورها ، فإذ بها ُتفتح الكوات فيها بأوسع مما ُفتحت فيها حجابات الدفاعات الاسرائيلية المقامة على حدود غلاف غزة . وهذه الاختراقات حصلت على مسارين اساسيين .
الاول ، تمثل بالتجرؤ على مقاضاة “اسرائيل” امام المحاكم الدولية ، محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ، وهذا يعود الفضل فيه الى دولة جنوب افريقيا التي بادرت الى رفع دعوى ضد “اسرائيل” لارتكابها جريمة ابادة جماعية والا لعدم تفاديها ارتكاب مثل الجرائم. وان تكون دولة جنوب افريقيا مبادرة لمقاضاة “اسرائيل” على جرائمها فليس لكي ترد جميلاً للثورة الفلسطينية يوم وقفت مع نضال المؤتمر الوطني الافريقي ورمزه نلسون مانديلا فقط ، بل لانها تعرف حجم المعاناة من سياسات الفصل العنصري التي ناءت تحت وطأتها عملاً بالقول ” لايعرف الشوق الا من يكابده ولا الصبابة الا من يعانيها “. وعندما تصنف “اسرائيل” بما هي سلطة قائمة بالاحتلال دولة “ابارتهايد” لدى الهيىئات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان ، فهذه يعني ان “اسرائيل ” عندما تمارس سياسة التطهير العرقي بارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ، انما تضع نفسها في موقع المعتدي على منظومة القيم الانسانية التي كفلتها المواثيق الدولية. وعندما ُيصدر مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية توصية الى الغرفة الابتدائية في المحكمة لاصدار مذكرة توقيف بحق رئيس وزراء العدو ووزير دفاعه لمسؤوليتهما في عدم احترام قوانين الحرب وارتكابهما جرائم ضد الانسانية ، فهذا تطور هام على مسار المساءلة القضائية لدولة الاحتلال ، واهميته انه صادر عن هيئات دولية ، وليس عن قضاء وطني بحكم الولاية الشاملة التي منحها لنفسه سنداً لدستور بلاده.
الثاني ،هو المسار السياسي ، والذي يترجم باتساع مساحة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين ، واخرها اعتراف اربع دول اوروبية الذي رفع عدد الدول التي تعترف بفلسطين كدولة الى ١٤٧ دولة. كما العديد من الدول التي بادرت الى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع كيان العدو بسبب ما يرتكبه من جرائم بحق شعب فلسطين.
ان هذين المسارين وان لم تتمتع قراراتهما بالقوة التنفيذية ،لان الصلاحية التنفيذية معقودة لمجلس الامن الدولي وبالتالي لاتأخذ طريقها الاجرائي الا بعد موافقة المجلس الامن المكبل بصلاحيات حق الفيتو الممنوح للدول ذات العضوية الدائمة ، فإن المحاصرة السياسية لم تعد تقتصر على “اسرائيل” ، بل باتت تطال اميركا التي توفر الحماية لها وتحول دون الاجراءات العقابية ضدها وضد تحويل قرار الجمعية العاملة بمنح العضوية الكاملة لدولة فلسطين .
ان هذه المحاصرة لم تأت من موقف عربي رسمي لجأ الى استعمال اوراق القوة لديه وهو موقف مخزٍ ، بل أتت من قوة تأثير الرأي العام حتى في الدول التي تؤيد حكوماتها “اسرائيل” ، وما شهدته الجامعات في اميركا واوروبا من حراك مدين “لاسرائيل” بالتلازم مع الدعوة للحرية لفلسطين ، هو خير دليل وشاهد على ان طوفان الاقصى الميداني احدث فعله كطوفان سياسي وهو مستمر في نبضه مع استمرار المقاومة في تصديها للعدوان وتشبث الشعب بارضه وتمادي العدو في ارتكابه المزيد من جرائم الحرب.
من هنا ، فإن معطيات ماقبل طوفان الاقصى على الصعيدين الميداني والسياسي ليست كما بعده ، لكن على اهميته إنما يبقى بحاجة الى حماية سياسية حتى لاتجهض نتائجه السياسية وتذهب التضحيات سدىّ، كما هو بحاجة الى توظيف معطياته وما احدثه من تحولات سياسية في الفضاء الدولي في الحد الاقصى الممكن لمصلحة القضية الفلسطينية. والمدخل لذلك، اولاً،بصمود ارادة المقاومة في صراع الارادات الذي يخرج عن الحسابات التقليدية في موازين القوى المادية، وثانياً ، بالارتقاء بالعلاقات الوطنية الفلسطينية الى مستوى الوحدة الوطنية الكفاحية عبر توحيد المرجعية السياسية والنضالية التي تمثلها منظمة التحرير وعلى قاعدة انضواء الجميع في اطارها وتطوير مؤسساتها والعودة الى ميثاقها الاساسي الذي يؤكد على مشروعية المقاومة لتحرير الارض من الاحتلال واقامة الدولة الوطنية على كامل التراب الوطني ، وثالثاً، بتوفير حضن قومي عربي دافئ لفلسطين وقضيتها.
لقد اعاد “طوفان الاقصى” القضية الفلسطينية الى مدارها الانساني ، وفرض اعادتها كاعدل قضية في العصر الحديث ومعه اثبتت فلسطين ان قضيتها هي قضية كاشفة لحقيقة التحالف الصهيو- استعماري ، وللطبيعة العنصرية للحركة الصهيونية ، ولازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا الشعوب وحقها في تقرير المصير ، ولمخاطر الانقسام الوطني الفلسطيني على مسار النضال الوطني ،ولاهمية تحصين الانجازات من الاحتواء والاستثمار بتضحيات شعب فلسطين .
فهل ترتقي قوى حركة التحرر العربية واولها قوى الثورة الفلسطينية الى مستوى المسؤولية التاريخية في الحفاظ على الانجازات التي تحققت على الارض وفي مدار التحولات السياسية وتوظيفها في الاتجاه الايجابي ؟ سؤال يفترض الاجابة عليه ، موقفاً وممارسة ، والا فإن التاريخ لن يرحم وسيكون قاسياً في احكامه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى