بحلول الثالث عشر من شهر نيسان لهذا العام، يكون قد مرت على البلاد ثمانية واربعون عاماً على الحرب الاهلية الداخلية التي استمرت لما يقارب السنتين من الزمن ١٩٧٥/١٩٧٦، ولم نزل نعاني ذيولها حتى يومنا هذا مزيداً من التداعيات السياسية لمصلحة المناطقية و"المزارع" الطائفية على حساب الدولة القوية المركزية، وكان لهذه التداعيات من الخطورة الامنية والاجتماعية والاقتصادية على اللبنانيين، ما عجزت سنتي القتال العبثي عن تحقيقه، وبات الانحلال التدريجي الممنهج للمؤسسات الوطنية مدخلاً لتنامي وانتعاش كل ما لا يمت للانتماء الوطني بِصِلَة وكأن البلد في انتقال متدرج الى التحلُّل السياسي لمصلحة معازل وكانتونات طائفية مرسومة في نفوس اصحابها ولا تخلُ بعض الصالونات والمجاميع اللبنانية من الحماس لها هذه الايام ،فلا تحتاج سوى لتكريسها في النصوص ، ان لم يكن ذلك قد حصل ميدانياً وتحوّل الدستور اللبناني الى شمّاعة يعلّق عليها الجميع مواقفهم الخلّبية الظاهرة على العلن ، فيما الباطن ينطق بغير ذلك.
قد تحمل بعض المعطيات اللوجستية التسليحية على ارض الواقع ما يفضي الى استبعاد تكرار الحرب الضروس التي تفجّرت في الثالث عشر من نيسان عام ١٩٧٥، لسببين ظاهرين:
١- إن من يملك امكانية التسلُح والقتال، ليست لديه النية إلى ذلك،
٢- وإن من يتمناها لتغيير الواقع بالقوة، عاجزُ عنها لعدم قدرته عليها بكل بساطة،
غير أن ذلك لا يعني ان ما تدفعه البلاد اليوم من اثمان باهظة في اقتصادها وافلاسها وإفقار مواطنيها وخلق بؤر الغليان المتنامي في الشارع، يشكل من التخريب الداخلي ما هو أخطر من القتال والحرب الداخلية، ويُفقِد البلد المظلّة الامنية المطلوبة لحمايته داخلياً ومنع اختراقه من اعداء الخارج. صحيح ان القتال العبثي بالسلاح والمدفع قد توقف، غير ان لعبة القتل والموت البطيء ما زالت جارية على قدم وساق وتطال اليوم شعباً بكامل عديده وشرائحه جراء الصراع السياسي الحاصل ذو الطابع الاخطر والأدمى من القتل عندما يُمنع الحليب عن الاطفال الرضع والدواء عن المرضى والرعاية الاجتماعية عن الشيوخ وتتوقف عجلة التعليم كما عجلة الصناعة في ظل انتشار العوز والجوع الذي بات يقذف الى الشارع يومياً الآلاف من الشباب، كل فردٍ منهم، مصيره الضياع ويشكل مشروع مواطن مشوّه لا يبالي بأية أخلاق وقيم وطنية ان وجد فيها ما يعيقه عن تحصيل قوت يومه باللجوء، حتى، الى الممنوعات والموبقات طالما افقدوه العيش بكرامة.
إنه قَدرُنا التعيس الذي يدفعنا الى الترحُّم على ماضٍ قاتَلَ فيه كل طرف من أطراف الحرب المشؤومة لتغييره وفق معتقداته الحزبية والسياسية، وسقط جرّاء ذلك مئات الآلاف من الضحايا والمعاقين من مختلف الاطراف المتصارعة التي تجد اليوم انها تغرق في حاضرٍ أسوأ مما كانت تقاتل لتغييره، والجميع عُزَّل حتى من لقمة العيش وحبة الدواء والبلد ينتظر مجهولاً لا يحمل من تباشيره سوى الجحيم.
إنه، وبعد أن كانت اولويات اللبنانيين تتمحور في سبيل تعزيز الوجود الانساني الحر الكريم، تراهم اليوم يجهدون كي يحمون هذا الوجود من الذوبان، محافظةً عليه بالدرجة الاولى قبل ان يندثر ويضيع ونفتقد السقف الوطني العريض الذي يجمع ولا يفرِّق وبعد ان كادت، حتى مسألة تقديم الساعة في فصل الربيع، على ابواب شهر رمضان، مثار معارك طائفية مُستَجِدَّة هي أقرب إلى الجنون العنصري من التعقُّل والارتقاء الى الموقف الوطني الجامع.
لقد اثبتت حرب السنتين في لبنان، أن القوي لن يبقى قوياً،
وبالتالي لن يعود الضعيف ضعيفاً كما كان مع الايام وبالتالي سيتكررّ المكرّر مع تراكم الضغائن والاحقاد، وتلك حقيقة دامغة ينبغي ان يتّعِظ منها كل من يستقدم الخارج للاستقواء على خصومه في الداخل، ليدفع ثمن هذه المواقف من وجوده التنظيمي والسياسي لاحقاً،
ولنتذكر، كم من اطرافٍ فرّقت بينها عداءات الماضي الأليم من الدم والقتال، راجعت ماضيها واقتنعت ان وجودها لا يكتمل إلا بمن تجمعها وإياه الرؤية والمواقف الوطنية المشتركة، حفاظاً على هذا السقف الوطني الجامع، الذي بدونه، لا مكان ليتفيأ لبناني في ظله شيئاً من الحرية وشعوراً بالوجود.
إن الحفاظ على وجود لبنان وطناً حراً مستقلاً لجميع أبنائه، هو ألف باء الخروج من الأزمة الوجودية التي يعيشها هذا البلد منذ اتفاق الطائف الذي كرسه الدستور اللبناني في العام ١٩٩٠ ولم يُعمَل به من قِبَل المنظومة الفاسدة الحاكمة سوى بشكلٍ استنسابي يؤمن مصالحها ويوفّر لها استمرارية وجودها، وهي الواقعة اليوم في عجزها عن اجتراح الحلول الاقتصادية والمالية والاجتماعية لانتشال البلد من أزماته الخانقة، بقدر عجزها عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية واعادة الحياة الى المؤسسات الوطنية التي تم تدميرها على أيدي هذه المنظومة الممعنة في تآمرها على البلد وتقسيمه موزعاً بكل مقدراته عليها، ولا تتوانى اليوم من وضع اليد على مؤسستي القضاء والجيش باعتبارهما آخر قلاع الصمود للمناعة والضمانة الوطنية غير الخاضعة للّعبة السياسية الداخلية ولوثتها الطائفية والمذهبية.
إنها مهمة القوى الوطنية الحية في لبنان للتوحيد والتكاتف في سبيل عدم انحلال الدولة وضياع البلد من خلال محاربة كل الاستقواءات الداخلية والخارجية على هذا البلد بالقدر الذي يدعو الى مواجهة دعوات الفدرلة المشبوهة التي تجاهر بالتقسيم ولا يخجل من يدعو اليها من التنظير لها مستغلاً الظروف السياسية القائمة واللعب على اوتار التوتر الطائفي العالي دون اكتراث من اطلاق رصاصة الرحمة على وطنٍ جامع يريدون توزيعه مقطّعاً الى "اوطان " لكل طائفة من الطوائف الحدود التي تحتمي بها من " الوطن " الآخر مكرسةً النزعات الانعزالية التي تروّجها ثقافة الارساليات الاجنبية التي لم تزل تمنع اللبنانيين ان يكون لهم تاريخاً موحداً لبلدهم لابقاء بذور الانقسام حاضرة في يومياتهم وتشتيت ثقافتهم والاختلاف حول مواضيهم.