إن المرفق القضائي كواحدٍ من المرافق العامة ليس في أحسن أحواله أسوة بالمرافق الأخرى التي تسيّر شؤون الدولة. وما يعاني منه هذا المرفق بعضه يرتبط بطبيعة الأزمة السياسية والاقتصادية بكل انعكاساتها الاجتماعية والحياتية والتي أَثَّرَتْ على بنية الدولة بكل مرافقها ومؤسساتها الارتكازية، وبعض آخر يرتبط بالإشكالية الناجمة عن تجاوزٍ في الممارسة السياسية لمبدأ دستوري ينص على الفصل بين السلطات، والسلطة القضائية هي واحدة منها. ومن باب التذكير فقط، أن مقدمة الدستور في فقرتها (هـ) نصت على أن النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها. كما المادة (٢٠) من الفصل الأول الذي تناول أَحْكَامًا عامة نصت على أن القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم، وتصدر القرارات والأحكام من قبل المحاكم باسم الشعب اللبناني.
من الرجوع إلى متن هذين النصين يتبين أن القضاء هو سلطة مستقلة في ممارسة وظيفته التي أناطها بها القانون، وأن العلاقة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية يحكمها مبدأ دستوري أيضا هو التوازن والتعاون.
وعندما ينص الدستور على التوازن بين السلطات، فهذا يعني أنه لا يمكن لأي سلطة دستورية أن تمارس وصايتها على سلطة أخرى. وبالتالي فإنه لا يحق ولا يجوز للسلطة التشريعية أو التنفيذية أن تتدخل في شؤون السلطة القضائية كمرفق عام ولا التدخل في عمل القضاء والمحاكم. بالمقابل فإنه لا يجوز للسلطة القضائية كمرفق عام أو القضاة التدخل في شؤون السلطة التشريعية والتنفيذية إلا ما تمليه قاعدة التعاون والتوازن.
إن هذا المبدأ الدستوري، لم يطبّق بشكل سليم ولم يعمل به وفق قواعده الآمرة، بل التداخل هو القائم، ولكن ليس أساس على قاعدة التوازن والتعاون، بل على أساس التدخل في شؤون القضاء وفرض الوصاية عليه من خلال دور للسلطة السياسية في تعيين مفاصل أساسية في المرفق القضائي، حيث إن تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى ومدعي عام التمييز ورئيس هيئة التفتيش القضائي والمدعي العام المالي يتم بموجب مراسيم صادرة عن مجلس الوزراء.
وبهذه الصلاحية الممنوحة للسلطة التنفيذية، بدا وكأن هذه السلطة تمسك بخناق السلطة القضائية، وتحد من استقلاليتها الفعلية ليس عبر التدخل في التعيينات وحسب وإنما أيضاً عبر التشكيلات وفي كثير من الملفات التي يشتم منها تورط لأطراف سلطوية أو من محسوب عليها فيها.
إن هذه الصلاحية المعطاة للسلطة التنفيذية تؤدي ببعض العاملين في المرفق القضائي إلى محاباة أصحاب النفوذ السياسي طمعاً بموقع مفصلي من المواقع الأساسية في هرمية المرفق القضائي. وهذه الصلاحية الممنوحة للسلطة التنفيذية، هي التي تحول حتى الآن دون الإفراج عن قانون استقلالية السلطة القضائية العالق في أدراج المجلس منذ سنوات. فالإفراج عن هذا القانون والذي ينظر إليه بأنه من ضمن السلة الإصلاحية لبنية النظام السياسي، يضع حداً لتدخل السلطة السياسية ويمكّن المرفق القضائي من ممارسة دوره بعيداً عن أية ضغوطات قد تمارس عليه كمؤسسة أو على العاملين فيه كأفراد، وبما يمنحهم درجة عالية من التحصن أمام كل أشكال الترهيب والترغيب التي يلجأ إليها أطراف المنظومة السلطوية.
بسبب هذا التدخل من السلطة السياسية في عمل المرفق القضائي، لم يستطع هذا المرفق القيام بدوره كما يفترض وفقاً لأحكام الدستور وللنصوص القانونية ذات الصلة بأداء عمله. وهذا التدخل وإن كان يجد استمراء لدى بعض العاملين في هذا المرفق الذين يمالئون مرجعيات سياسية أو دينية أو حتى أمنية رسمية أو من قوى الأمر الواقع، فإن الغالبية من القضاة لا ينصتون إلا لنداء الضمير الإنساني أولاً والوطني ثانياً وهم يختلون مع ذاتهم في غرف المذاكرة قبل النطق بالأحكام باسم الشعب اللبناني. وإذا كان قضاة كثر شغلوا مواقع أساسية في هرمية المرفق القضائي ومسيرتهم تشهد على نظافة الكف وبيض الصفائح، فإن الرئيس سهيل عبود هو واحد من هؤلاء الذين وإن عينوا بقرار من السلطة التنفيذية، إلا أنهم رسموا خطوطاً حمراء لم يسمحوا لِأَحَد بتجاوزها في نطاق عملهم، وهذا ما شكل إزعاجاً لأطراف من المنظومة السلطوية التي لم تستوعب بعد أن ليس كل الطير يؤكل لحمه.
لقد ارتفع منسوب الحملة السياسية ضد الرئيس عبود، ليس لكونه أبدى تفهما لموقف القضاة الذين اعتكفوا عن العمل لأسباب عديدة بعضها متعلق بأوضاعهم المعيشية وبعض متعلق بحسن سير المرفق وحسب، بل لكونه وقف ضد فرض الوصاية السياسية على المرفق القضائي وإصراره على احترام المبدأ الدستوري الذي ينص ويؤكد على الفصل بين السلطات. وهذا الموقف الذي يتمسك به الرئيس عبود ولاقاه به العدد الأكبر من القضاة، هو بارقة الأمل الوحيدة في ظل الظلام الدامس في إعادة الاعتبار للدولة انطلاقاً من حماية المرفق القضائي من التسلط السياسي عليه والذي يبرز بشكل جلي في إعاقة عمله من خلال المراجعات برد القضاة والتي وصلت أخيراً إلى المرجع الأول في الهرم القضائي.
إن ما يدعو للتفاؤل أن القضاة الذين حركتهم ظروف الحياة الصعبة أسوة بشرائح واسعة من المواطنين، أعادوا التأكيد بأن الظرف المعيشي وإن كان ضاغطاً إلا أن باعث تحركهم هو أبعد من تحسين ظروف المعيشة وهذا حق مشروع، بل هو تحسين ظروف المرفق القضائي من خلال انتظام عمله وفق ما نصت عليه أحكام الدستور والقوانين ذات الصلة. وعندما يصر القضاة على الإفراج عن قانون استقلالية السلطة القضائية لوضع حدٍّ لتدخل السلطة السياسية في عمل القضاء، يبدو كم هو ضروري حراك القضاة كمدخل للإصلاح الشامل. وإذا كان البعض ينتظر بلوغ الرئيس عبود السن القانونية لشغور الموقع وبالتالي إزالة عائق حال ويحول دون وضع تمادي السلطة السياسية في وضع يدها على القضاء، فهؤلاء عليهم أن يدركوا أن الأرضية التي وقف عليه الرئيس عبود استناداً إلى قوة النص ووضوحه وما يتمتع به من مناقبية ومعطيات شخصية إنما تسنده فيه القوة المعنوية للجسم القضائي، كما كل الذين يطالبون باحترام استقلالية القضاء الذي تقاومه المنظومة السلطوية بكل أطرافها دفاعاً عن محاصصتها ومغانمها واستمراء نهبها للمال العام دون محاسبة أو مساءلة.
إن الرئيس عبود وان غادر موقعه بعد بلوغ السن الحكمي للتقاعد، إلا أن ما أسسه وقاتل بقوة القانون لأجله سوف يبنى عليه.