Javascript DHTML Drop Down Menu Powered by dhtml-menu-builder.com


قراءة قانونية وسياسية واقتصادية لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة.


16-10-2022
المحامي حسن بيان

تمهيد

مساء الخميس الثالث عشر من تشرين الاول ٢٠٢٢ اطل رئيس الجمهورية ميشال عون من شاشات التلفزيون ليزف الى اللبنانيين انجاز الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، بعد مفاوضات إدارتها الادارة الاميركية عبر اكثر من وسيط و لتستقر
في النهاية عند الوسيط هوكشتاين.
بدا الرئيس وهو يزف البشرى للبنانيين مغتبطاً بما تم انجازه معتبراً ان الاتفاق حفظ للبنان حقوقه، ولم ينس ان يكيل المديح لمن ساهم في ايصال هذا الملف الى نهايته "السعيدة ". وكان لافتاً في رسالته تركيزه على دور وزارة الطاقة منذ اصبحت من حصة تياره السياسي في كل تشكيلة حكومية كان مشاركاً فيها، ومركزاً بشكل خاص على صهره النائب جبران باسيل والذي يشغل الان موقع رئاسة "التيار الوطني الحر"، وفي السياق العام عرّج على من ساعد في انجاز الاتفاق وخاصة الادارة الاميركية ممثلة برئيسها ووسطائها.
هذا الترسيم الذي هو الان مدار سجال سياسي حول ما إذا كان الاتفاق هو انجاز عظيم ويندرج ضمن "الانتصارات"، أم أنه انطوى على تنازلات عن حق سيادي، كما ان الاتفاق هو موضوع جدل حول مركزه القانوني، وما إذا كان يقع تحت وصفه بالاتفاقية، او المعاهدة او التفاهم، ولكل واحدةٍ من هذه التوصيفات مقوماتها وسياقاتها الواجب سلوكها في الدوائر الوطنية والدولية ذات الصلة. كما لا يخفى ان اثاراً اقتصادية ستترتب على نفاذ هذا الترسيم بحكم ان المرتكز الاساسي لإبرامه يكمن في استخراج النفط والغاز في باطن الارض المشمولة باتفاقية الترسيم.
وعليه فإننا سنقارب هذا الموضوع من خلال قراءة ابعاده القانونية والسياسية والاقتصادية

اولاً، في المركز القانوني لترسيم الحدود البحرية
ما أن أعلن عن انجاز ترسيم الحدود البحرية، حتى بدأ النقاش يدور حول المركز القانوني لهذا الحدث، هل هو معاهدة، او اتفاقية او تفاهم او بروتوكول. فأي تعريف قانوني ينطبق على مسألة الترسيم. ؟
في تعريف المعاهدة، أنها مصطلح يطلق على الاتفاقيات ذات الطابع السياسي كمعاهدات السلام مثلاً، وهي تثمر نتائج قانونية يلتزم بها الاطراف الموقعون عليها، اثنان او أكثر، ويجب ان يكونوا من اشخاص القانون الدولي.
أما الاتفاقية، فهي مصطلح يتناول قضايا تتعلق بالشؤون الاجتماعية او الاقتصادية والتجارية والعسكرية. وعليه فالاتفاقية تطلق على المعاهدة التي تعقدها الدول في غير الشؤون السياسية والتي تحتوي على قواعد قانونية وتنظم علاقات الدول الاطراف فيها، وقد تسري على غيرها كالمنظمات التي تعتبر من اشخاص القانون الدولي العام.
أما مذكرة التفاهم، فهي بحسب تعريف ويكبيديا، وثيقة رسمية تتضمن اتفاقاً بين طرفين او أكثر، وهي تصف شروط الاتفاقية وعناصرها، وهي تُعد ايذاناً ببدء العمل بين أطراف الاتفاق أكثر منها التزاماً قانونياً، ولا يمكن بالتالي احالة مذكرة التفاهم على المحكمة ذات الاختصاص، بعكس الاتفاقية التي يمكن ان تحال الى المحكمة لبت نزاع ناشئٍ حولها. كالاحالة الى محكمة العدل الدولية على سبيل المثال.
أما الميثاق والدستور والعهد، فهي مصطلحات تطلق على المعاهدات الجماعية المنشئة للمنظمات الدولية.

بالاستناد الى هذه التعاريف يبدو ان المعاهدة والاتفاقية تتشاركان في كثير من الاوصاف، لكنهما يفترقان في طبيعة القضايا التي تشكل مضموناً لموضوعاتهما. فالمعاهدة تتناول القضايا ذات الطابع السياسي، أما الاتفاقية فتتناول القضايا ذات الطابع الاقتصادي والعسكري والاقتصادي والتجاري.
ومن خلال مقاربة مسألة الترسيم في ضوء التعريفات المشار اليها اعلاه، فإنها ليست ميثاقاً ولا دستوراً ولا عهداً دولياً، ولا تقع تحت توصيف مذكرة التفاهم. وتبقى محصورة في تحديد مركزها القانوني بين تعريفي المعاهدة والاتفاقية.
وبحكم ان مسألة الترسيم، تناولت مسألة فنية مرتبطة بتحديد خطول فَصْلٍ جغرافي بين دولتين هما لبنان وفلسطين الواقعة تحت الاحتلال الصهيوني، وإن "اسرائيل" بما هي سلطة احتلال شكلت الطرف الثاني في عملية التفاوض التي اديرت بشكل غير مباشر عبر الوسيط الاميركي. وكون التفاوض الذي تناول ترسيم الحدود البحرية، انطوى على تحديد حقوقٍ اقتصادية متعلقة باستخراج النفط والغاز من قاع البحر كل من المنطقة التي خرجت بحصته.
وبما أن عملية التفاوض لم تتطرق الى موضوع العلاقات السياسية بين لبنان والكيان الصهيوني، واقتصرت مندرجات الاتفاق على قضايا تتعلق بالجوانب الاقتصادية والتجارية والعسكرية والفنية، فإن التفاوض بمقدماته وسياقاته وما افرزه من نتائج يكون والحالة هذه مندرجاً تحت وصف الاتفاقية.
اذاً إن المركز القانوني لعملية الترسيم هو اتفاقية موقعة بين طرفين من أطراف القانون الدولي حتى ولم يكن هناك اعتراف سياسي ودبلوماسي بينهما. لأن "اسرائيل"، بما هي سلطة قائمة بالاحتلال وان كان لبنان لا يعترف بها ويعتبرها دولة عدوة، إلا انها تحوز على اعتراف دولي بوجودها من خلال عضويتها في منظمة الامم المتحدة، مع ملاحظة أن هذه الاتفاقية لم تكتسب حتى تاريخه صيغة النفاذ النهائي لأنها لم تعبر قنوات الاقرار لدى السلطتين التنفيذية والتشريعية لدى اطرافها وحتى تصبح مبرمة وملزمة.

إن اعتبار عملية ترسيم الحدود البحرية، اتفاقية وليست معاهدة، ستطرح اشكالية احالتها الى المجلس النيابي لإقرارها. وهذه الاشكالية ناجمة عن نص المادة ٥٢ من الدستور التي نصت على أن رئيس الجمهورية يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وابرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة. ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء. وتطلع الحكومة مجلس النواب عليها حينما تمكنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة. أما المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة والمعاملات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب.
ان نص المادة ٥٢ اوجب احالة المعاهدة التي تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة وتلك لا تفسخ سنة فسنة، الى مجلس النواب للموافقة قبل الابرام. ولم تشر المادة المذكورة الى الاتفاقية وهي التي تنطبق على واقع الحال بالنسبة لاتفاقية الترسيم. وهذه حجة قد يتمترس وراءها دعاة الذين لا يرون ما يوجب احالة الاتفاقية الى المجلس للاطلاع والمناقشة واتخاذ موقف منها سلباً او ايجاباً، لان نص المادة ٥٢ صريح وواضح وهو تناول احالة المعاهدة وليس الاتفاقية. وأما الذين يدعون الى احالة الاتفاقية الى المجلس لوضع يده عليها، فحجتهم ان الاتفاقية تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة كما أنها لا يجوز فسخها سنة فسنة، ولذا فإن المشترع الذي فرض احالة المعاهدة الى المجلس النيابي عند توفر شرطي عدم جواز الفسخ سنة فسنة وبما يتعلق بمالية الدولة، لم يميز بين المعاهدة والاتفاقية واللتين تتشابهان بكثير من المقومات، ولذلك ما ينطبق على المعاهدة إنما ينطبق على الاتفاقية.
وبما ان الاتفاقية تنطوي على شروط تتعلق بمالية الدولة وليست معرضة للفسخ سنة فسنة، فهذا يوجب احالتها الى المجلس النيابي. ونرى ان تجاوز هذه الاشكالية الناجمة عن حصر اشارة المادة ٥٢ بالمعاهدة دون غيرها، إنما يكون بالرجوع الى نص المادة ٨٩ من الدستور التي تنص على أنه لا يجوز منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو أي احتكار إلا بموجب قانون والى زمن محدود.
وطالما ان الاتفاقية تنطوي على منح امتياز لشركة توتال لاستغلال ثروة النفط والغاز وهي من موارد البلاد الطبيعية، فإن الاتفاقية بما انطوت عليه من شروط توجب عرضها على المجلس النيابي سنداً للمادة ٨٩ من الدستور.
وعندما تحال الاتفاقية على المجلس سنداً لهذه المادة، فإنه بحكم ولايته التشريعية الشاملة يصبح من حقه وضع يده على الاتفاقية بكل مندرجاتها وما رتبته من موجبات وحقوق مالية فضلاً عن التدقيق فيما إذا كانت الاتفاقية احترمت نص المادة ٢ من الدستور والتي نصت على أنه لا يجوز التخلي عن أحد اقسام الاراضي اللبنانية أو التنازل عنه.
وبناء عليه، فإن الاتفاقية يجب احالتها الى مجلس الوزراء، كي يحيلها بدوره الى المجلس النيابي وبعده يتم الابرام من قبل رئيس الجمهورية وفق الاليات الدستورية المفروضة تحت طائلة الابطال.
وتبقى مسألة لابد من الإشارة عليها، وهي حصول حول تفسير الاتفاقية أو تنفيذها، فإن اميركا التي رعت وادارت المفاوضات هي المرجع التحكيمي. والمحكم يكون حيادياً وعلى مسافة واحدة من طرفي النزاع. فهل اميركا هي طرف حيادي ، وهي التي تعتبر امن "اسرائيل"، من ركائز استراتيجيتها حيال المنطقة العربية.؟
ثانياً، في البعد السياسي لإنجاز اتفاقية ترسيم الحدود.

من المعروف ان المقدمات التي سبقت وصول عملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة الى مآلاتها النهائية تعود لعقود خلت، واولى خطوات الترسيم بين لبنان وفلسطين قبل احتلالها، كانت عام ١٩٢٣، يوم اعتمد رأس الناقورة نقطة الانطلاق لتحديد الاحداثيات التي تثبّت على اساسها الحدود. وقد تمت الاشارة الى رأس الناقورة في اتفاق" بوله - نيوكومب "الذي رسّم الحدود بين لبنان وفلسطين عام ١٩٢٣ ويوم كانت الدولتان تحت الانتداب البريطاني والفرنسي. وقد ثبّت هذا الخط في شباط ١٩٢٤. وفي المادة الخامسة من اتفاقية الهدنة فقرتها الاولى، تأكيد بأن خط الهدنة هو نفسه خط الحدود الدولية (٢٣ اذار ١٩٤٩). وقد اعيد الاعتبار لخط (بوله -نيوكومب) بعد اتفاقية الهدنة بتسعة أشهر تقريباً وتحديداً في شهر كانون الاول ١٩٤٩، وتم بالاستناد الى ذلك وضع نقاط ثانوية اضافة الى النقاط الاساسية التي كانت موضوعة، وقد وقعت دولة الاحتلال الصهيوني على الوثيقة التي تعتبر رأس الناقورة هو نقطة الحدود على البحر المتوسط، كذلك وقع لبنان بشخص المقدم اسكندر غانم الذي رأس يومذاك الوفد العسكري للمفاوضات حول تحديد احداثيات خط الحدود.
ان قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة لم تثر كقضية نزاعية منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين العام ١٩٤٨، وحتى نهاية القرن العشرين. وأن عودة هذه القضية الى المشهد السياسي بدأت في العام ٢٠٠٣، يوم بدأ الحديث يكثر عن وجود غاز ونفط في شرق المتوسط، وخاصة في الحوض المائي الواقع بين سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة وقبرص. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن العام الذي بدأ البحث الجدي فيه باستثمار غاز ونفط شرق المتوسط، هو العام الذي تعرض فيه العراق للغزو المتعدد الجنسية بقيادة اميركا وأدى الى احتلاله واسقاط نظامه الوطني وتحلّل دولته.
ان اميركا التي قادت الحربين على العراق سواء تلك التي شنت عليه العام ١٩٩١، او تلك التي شنت في العام ٢٠٠٣، سعت لتوظف نتائجهما في سياق تنفيذ مشروع اعادة تشكيل نظام اقليمي جديد تكون الدول الاقليمية غير العربية من اركانه. وهذا ينطبق على الكيان الصهيوني وإيران وتركيا. ولهذا ما ان وضعت الحرب الاولى في بداية التسعينات اوزارها حتى كانت التحضيرات تجري على قدم وساق لعقد مؤتمر مدريد لحل ما يسمى بأزمة الشرق الاوسط وهي التسمية الدولية للصراع العربي الصهيوني. وما ان وضعت الحرب الثانية (حرب احتلال العراق) اوزارها ايضاً حتى بدأ الاعداد العملي لتنفيذ المرحلة المتقدمة من الاستراتيجية الاميركية حيال الوطن العربي لفرض تسوية بالشروط الاميركية تحاكي بالدرجة الاولى ركيزتين اساسيتين من ركائز هذه الاستراتيجية وهما امن النفط وامن "اسرائيل".
من هنا، ليس مصادفة ان يفتح ملف الاستثمار النفطي في شرق المتوسط، بالموازاة الزمنية وفي ضوء المتغيرات السياسية التي حصلت من جراء اسقاط الموقع العراقي بكل انعكاساته على الاقليم. واذا كان ملف الاستثمار في نفط شرق المتوسط لم يشهد خطوات متسارعة ، فلأسباب متعلقة بالتعقيدات الناتجة عن تعدد اطرافه الاقليميين في ظل غياب ترسيم للحدود البحرية بين دول الحوض النفطي الواقع بين سوريا ولبنان وقبرص وفلسطين المحتلة من جهة ، ولإدخال عملية الاستثمار واستخراج النفط في اطار الصراع والتجاذبات الدولية من جهة ثانية، اضافة الى عاملين اساسيين اديا الى تراجع الاهتمام الاقليمي والدولي بهذا الملف ، اولهما متعلق بالصعوبات التي بدأت تواجهها اميركا في العراق من جراء تصاعد المقاومة الوطنية بوجهها ، وثانيهما العدوان الذي شنه الكيان الصهيوني ضد لبنان العام ٢٠٠٦، وما افرزه من نتائج.
ان اميركا اعلنت بعد احتلال العراق ان المنطقة ستدخل عصراً سياسيا جديداً، كما اعلنت ايضاً بأن حرب ٢٠٠٦ ستسرع في ولادة النظام الاقليمي الجديد. وعندما تتكلم اميركا عن ولادة هذا النظام الاقليمي الجديد، فإنما تضع في اعتبارها ادخال مكوناته الاساسية غير العربية في عملية تشكيل هذا النظام، من الكيان الصهيوني الى إيران وتركيا ومعهم اثيوبيا من بوابة الامن المائي. وهذا ما يتطلب تسهيل العبور الصهيوني والايراني والتركي الى العمق العربي، وتمكين هذه الاطراف من الجلوس على طاولة الترتيبات السياسية للازمات المتفجرة في المنطقة او تلك التي يدور صراع عليها.
على هذا الاساس سهلت اميركا لإيران الدخول الى العراق وممارسة احتلالاً له من الباطن، ومن ثم التغول في العمق القومي بالاتكاء على دور أذرع عسكرية سياسية وأبرزهما حزب الله في لبنان والحركة الحوثية في اليمن، كما عملت على تمكين الكيان الصهيوني من اختراق العمق القومي من بوابة التطبيع مع بعض الانظمة العربية، ووفرت تغطية للدور التركي ليلعب دور الرافعة السياسية لحركة الاخوان المسلمين في العديد من الاقطار العربية. بذلك اصبحت إيران على تماس مباشر مع اميركا في العراق، وعلى تماس مباشر مع الكيان الصهيوني من خلال علاقاتها مع بعض الفصائل الفلسطينية وحزب الله. وهذا ما اعطى لإيران ورقة عملت على توظيفها في سياق مشروعها الخاص وعبر تقديم نفسها أحد اللاعبين الاقليميين الاساسيين في ترتيبات الحلول في المنطقة. وكانت اولى نتائج هذا التوظيف هو الاتفاق على الملف النووي العام ٢٠١٥ والذي تجري المفاوضات حالياً لإعادة إحيائه بعدما الغاه الرئيس الاميركي السابق من جانب واحد.
ان هذا الاستطراد حول هذه المسألة، ولو اعتقد البعض انها من خارج سياق الموضوع، إلا انها تندرج في صلبه، لان اميركا التي تعمل لتشكيل النظام الاقليمي الجديد، تدرك جيداً ان تنفيذه يتطلب تطبيعاً "رسمياً عربياً - صهيونياً "، وتطبيعاً ايرانياً - صهيونياً، واعادة الحرارة للعلاقات التركية الصهيونية. وهذه المسارات الثلاث يبرز مشترك واحد فيها هو الكيان الصهيوني.
واذا كانت اميركا وايران تدخلان مباشرة تارةً بالواسطة تارةً اخرى في اشتباك سياسي ظاهري في العراق لخلاف على حجم الدور والحصص ، وهو ما كان وراء الانسداد السياسي لعملية استيلاد سلطة جديدة بعد مرور سنة على انتخابات نيابية شهدت مقاطعة شعبية واسعة، فإن الحالة ذاتها تستحضر في ادارة الملفات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتعلقة بالوقع المحيط بالساحة اللبنانية ، وملف ترسيم الحدود البحرية واحد منها ، باعتبار ان ايران لم تغب لحظة عن كواليس هذا الملف عبر الدور الذي لعبه حزب الله في التحكم بمسار المفاوضات بشكل غير مباشر. وعليه فإن دور إيران كطرف غير منظور في مفاوضات الترسيم كان مقروءاً فيما اسفرت عنه نتائج. ولذلك لم يكن مصادفة ان يعلن عن اتفاقية الترسيم في نفس الوقت التي ولدت فيها تشكيلة سلطة جديدة في العراق. فمقابل التنازلات التي قدمها الجانب اللبناني وبموافقة حزب الله، تمكنّ الكيان الصهيوني من الحصول على ضمانات امنية وتوسيع مساحة التنقيب العائدة له، وحصلت إيران على ترجيح كفة تشكيلاتها السياسية والامنية والعسكرية في العراق عبر استيلاد تشكيلة سلطوية جديدة انهت الانسداد السياسي، ومكنّ القوى المرتبطة بمركز التوجيه والتحكم الايراني من الامساك بناصية القرار السياسي بكل ما يتعلق بإدارة العملية السياسية. كما ان إيران منحت "بونس مالي "، بالإفراج عن سبعة مليارات دولار اميركي من الاموال المحتجزة في البنوك الغربية.
ان اميركا التي ادارت ملف المفاوضات بدت متحمسة للوصول به الى مآلاته النهائية وهي التي لم تكن متسرعة في السابق، وانما بسبب ضرورات الحرب في الشرق الاوربي، والسعي لتأمين بديل للغاز والنفط الروسيين لأوروبا، مارست ضغطاً على الاطراف المفاوضة، ونظمت مقايضة لتنازلات متقابلة في ساحة كل طرف يعتبر انها تحتل اولوية له. من هنا حصلت اميركا على ايجاد بيئة آمنة لاستخراج النفط والغاز من شرق المتوسط خدمة لهدف استراتيجي متعلق بالحرب الروسية - الاوكرانية والذي على ضوء نتائجه سترتسم معالم نظام جديد على مستوى العلاقات الدولية ، كما رعت عملية تطبيع ولو غير مباشرة بين ايران والكيان الصهيوني من خلال صفقة التنازلات المتقابلة ، هذا الى ان ثمة تطبيع اقتصادي ولو كان غير مباشر ايضاً سيصبح امراً واقعاً بين لبنان والكيان الصهيوني ، ولبنان الذي يعاني من اختناق اقتصادي وانسداد سياسي وتدهور مريع في مستوى المعيشة فتحت امامه نافذة أمل باستخراج النفط والغاز من المنطقة التي خرجت من حصته وهي دون حصته التي كانت ستعود اليه لو لم يقدم تنازلات بينية التي تثبها الوقائع الدامغة.

في التنازلات التي قدمها الجانب اللبناني وانعكاساتها الاقتصادية.
ان الذين يروجون لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية سواء من هم في واجهة المشهد او من هم خلف الستارة، يعتبرون ان الاتفاقية هي انجاز عظيم وهي انتصار تاريخي للبنان، وهذا ما بدا واضحاً في رسالة رئيس الجمهورية عشية الاعلان عن التوصل الى الاتفاق، كما في اشادة من هم خلف الستارة بهذا الاتفاق. وحتى لا يبدو الامر وكأنه يدخل في إطار المناكفة السياسية وبعيداً عن المقاربة السياسية الشعبوية، لا يسعنا الا أن نرد على من يعتبر الاتفاقية هي انتصار للبنان بالوقائع التي لا تترك مجالاً للشك بأن لبنان خرج خاسراً من هذه الاتفاقية وطنياً وسياسياً واقتصادياً، ولا يغير من حجم هذه الخسارة حصول لبنان على بعض المنافع الاقتصادية من خلال ما خرج به من حصة يبقى الخوف قائماً ومشروعاً من نهبها وسرقتها اسوة بالمال العام الذي نهب واوصل البلد الى الانهيار شبه الشامل.

الخسارة في بعدها الوطني.
ان الاتفاقية التي تم بالاستناد اليها ترسيم الحدود البحرية، اعتمدت الخط ٢٣ كخط ترتسم على اساسه الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وهذا الخط الذي تبتهج السلطة اللبنانية بتثبيته كخط فاصل يقع جنوب الخط رقم (١) الذي يعتبره العدو الصهيوني خطاً فاصلاً، ثم جاء هوف ونزل بهذا الخط قليلاً باتجاه الجنوب وسمي باسمه، وبعدها جاء المفاوض الاميركي الجديد ليعدل من مسار خط هوف جنوباً قليلاً ويطرح الخط ٢٣ كخط فاصل.
ان السلطة اللبنانية تعتبر ان اعتماد الخط ٢٣ يعيد للبنان مساحة ٨٦٠ كلم ٢، وهذا بنظرها مكسب كبير بحد ذاته. لكن السطلة اللبنانية وهي تغتبط لاعتماد هذا الخط تتجاهل ان الخط ٢٩ هو الخط الذي اعتمد سابقاً كخط فاصل لترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة وهذا موثق في اتفاقية الهدنة وفي المحضر الذي وقع عليه لبنان والكيان الصهيوني بعد أشهر من اتفاق الهدنة.
ان اعتماد الخط ٢٣ لا يأخذ بعين الاعتبار احكام قانون البحار الصادر العام ١٩٨٢ والذي يعتمد النقاط الثابتة على اليابسة للانطلاق منها لترسيم الخطوط البحرية. وهذا ما كان يفرض ان يعتمد رأس الناقورة كنقطة انطلاق لتحديد الاحداثيات وهو ما كان مأخوذ به يوم اعتبر الخط ٢٩ كخط ينطلق من رأس الناقورة باتجاه العمق المائي.
إن اسقاط الخط ٢٩ من حسابات الوفد اللبناني المفاوض وعدم اعتماده خطاً لترسيم الحدود أفقد لبنان ١٨٦٠ كلم ٢ من مساحة مائية كانت بالأساس محتسبة من مساحته الجغرافية. وإن مساحة ال ٨٦٠ كلم ٢ التي اعتبرت داخلة ضمن حدود السيادة الوطنية سنداً للخط ٢٣ لا تبرر التنازل عن ١٨٦٠ كلم ٢ فيما لو اعتمد الخط ٢٩.
إن التنازل الاول انطوى على تنازل عن حق سيادي، وهو حق وطني ولا تملك السلطة السياسية التنازل عنه، لان امر البت به يعود للشعب وليس للسلطة. وللتذكير فقط فإن اتفاق ١٧ ايار اعتمد رأس الناقورة نقطة انطلاق لتحديد الاحداثيات واعتبر الخط ٢٩ اساساً لترسيم الحدود وبذلك يكون اتفاق ١٧ أيار أعطى للبنان أكثر مما اعطته اتفاقية ترسيم الحدود المائية.
أما التنازل الثاني، فإن الاتفاقية التي لم تعتمد رأس الناقورة نقطة الانطلاق لتحديد الاحداثيات، اعتمدت نقطة على الماء باتجاه الشمال وهذا كان رضوخاً للمطلب الصهيوني الذي استجابت له اميركا واعطت "لإسرائيل" مدىً اوسع من السيطرة المائية بحجة تبديد المخاوف الامنية لديها. وعندما تعتمد نقاط مائية لتحديد الاحداثيات فهذه النقاط لا يمكن الركون اليها لأنها نقاط مائجة. ولهذا لم يعتمد قانون البحار النقاط البحرية عند ترسيم الحدود البحرية بين الدول. ويبدو ان السلطة اللبنانية لا تجد ضيراً من التنازل عن مساحات في المنطقة الاقتصادية البحرية، لأنها سلطة تفتقر الى مشروعيتها الوطنية. فهي كما تنازلت عن حق سيادي للبنان سنداً لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني سبق وتنازلت عن حق سيادي عند ترسيم البحرية مع قبرص، فعمدت الى تقاسم المنطقة الاقتصادية مناصفة في حقل افروديت، فيما قانون البحار يعتبر ان حصص الدول من المناطق الاقتصادية في عمق البحار تكون بنسبة طول شواطئ الدول المحاذية. وبما ان الشاطئ اللبناني اطول من الشط القبرصي، فكان يفترض ان تكون حصة لبنان في البلوكات البحرية أكبر من الحصة القبرصية.
وهنا يطرح التساؤل لماذا تفرط السلطة بحقوق وطنية؟ ان الجواب هو أن المنظومة السلطوية التي تدير البلاد على اساس المحاصصة والسمسرة والرشى تفتقر الى صدقية الالتزام الوطني، وعليه ليس مستغرباً على هكذا منظومة سلطوية بكل اطرافها التفريط بحق وطني مقابل مغانم فئوية. ! ولهذا فإن رائحة الصفقات المشبوهة والسمسرة تشتم من كل تصرف تقدم عليه سلطة غارقة في الفساد حتى اذنيها. فمن يسرق المال العام يهون عليه بيع الحقوق الوطنية مقابل "ثلاثين من الفضة ".
ان تنازل السلطة اللبنانية عن الخط ٢٩ وهو الذي يشطر حقل كاريش إلى قسمين ،جعل هذا الحقل يخرج من حصة الكيان الصهيوني ، واكثر من ذلك اعطى لدولة العدو جزءاً من مردود حقل قانا تدفعه له شركة توتال التي تتولى التنقيب والاستخراج من جعالتها .واذا كانت التقديرات الاولية تشير الى ان المخزون الكبير هو في حقل كاريش، فلبنان والحالة هذه لا يكون قد خسر مساحة من المنطقة الاقتصادية في البحر وحسب ،بل ايضاً يكون قد خسر مردوداً كبيراً من عائدات هذا الحقل الذي لم يعد منطقة متنازع عليها، بعدما اصبح بموجب الاتفاقية من حصة الكيان الصهيوني .
اذاً، بعيداً عن البروبغندا الاعلامية والترويج للانتصارات الوهمية فإن الخسارة في الجانب الاقتصادي باتت واضحة، كما التنازل عن حقوق وطنية، وان المقدمات التي سبقت اتفاقية الترسيم كانت تشير الى ان الامور سائرة في هذا الاتجاه. ومن مؤشرات تلك المقدمات، سحب ملف التفاوض من ايدي الجيش اللبناني الذي لم يتراجع عن تمسكه بالخط ٢٩، وتسليم الملف لوفد سياسي اعتبر القبول بالخط ٢٣ مكسباً، وتبين ان خلفية هذا الموقف هو توجيه رسالة للوسيط الاميركي تقضي التنازل عن الخط ٢٩ مقابل رفع العقوبات عن صهر الرئيس، كي تصبح الطريق سالكة امامه الى قصر بعبدا. لكن الامور لم تسر فب الاتجاه الذي كان يسعى اليه من استرد الملف من ايدي الجيش، لان القضية في ظل الاوضاع التي أملت توقيع الاتفاقية هي أكبر من معطى الوضع الداخلي والحسابات الخاصة لبعض اطرافه، ولهذا ذهبت للاستقرار عند القوى الدولية والاقليمية المشغّلة للأطراف الداخلية في عملية الصراع في الامة العربية وعليها.

خلاصة
ان لبنان خرج خاسراً من هذه الاتفاقية ولو حصل على بعض من مردود مخزون النفط والغاز ، والرابحون هم ،اولاً، اميركا في توظيفها السياسي لغاز ونفط المتوسط في اطار الصراع الذي تديره في الحرب الروسية الاوكرانية، وثانياً ايران التي قبضت ثمناً معجلاً في اعادة تعويم دورها في العراق باستيلاد سلطة جديدة تتحكم بمفاصلها وربما تقديمات أخرى ُوعدت بها مقابل انخراطها في عملية التطبيع مع العدو من خلال ملف التفاوض على الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وثالثاً العدو الصهيوني الذي وسع من المنطقة الاقتصادية التي يستغل ثرواتها في كامل حقل كاريش وحصة من حقل قانا ، فضلاً عن اسقاط الخط ٢٩ الذي ينطلق من رأس الناقورة في تحديد الاحداثيات.

أمام كل هذا الواقع، كان على السلطة اللبنانية ان تصارح الشعب وتضع الحقائق امامه كما هي، وليس وفق تصوراتها الافتراضية، لكن سلطة تفتقر الى الصدقية والمشروعية لا يمكن ان تصارح الشعب بالحقيقة لان فاقد الشيء لا يعطيه.

New Page 1